[frame="3 10"]
[center]
[center]
[center]::: طريق النجاة :::
*************
قال شيخ الإسلام ابن القيم: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو
مسافر فيها إلى ربه. ومدة سفره هي عمره الذي كتب له. فالعمر هو مدة سفر
الإنسان في هذه الدار إلى ربه. ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره.
فكلُّ يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة مرحلة حتى ينتهي
السفر."
" فالكيِّس الفطن (الموفق) هو الذي يجعَل كل مرحلة نُصْبَ عينيه، فيهتم
بقطعها سالما غانما. فإذا قطعها جعل الأخرى نُصْبَ عيْنيه. ولا يطول عليه
الأمد فيقسو قلبه، ويَمْتَدَّ أمله، ويحضر بالتسويف والوعد والتأخير
والمطل. بل يعدّ عمْرَه تلك المرحلة الواحدة. فيجتهد في قطعها بخير ما
بحضرته."
فإذا تيقن قِصَرَها وسرعة انقضائها هان عليه العمل، فطوعت له نفسه
الانقياد إلى التزوُّدِ. فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها
كذلك. فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها. فيحمد سعيه، ويبتهج بما
أعده ليوم فاقته وحاجته. فإذا طلع صبح الآخرة، انقشع ظَلاَمُ الدنيا،
فحينئذ يحمد سُرَاهُ، وينجاب عنه كَراهُ. فما أحسن ما يستقبِلُ يومه وقد
لاح صباحُه، واستبان فلاحه"
ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان :
القسم الأول:
*********
فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاء فكلما قطعوا منها مرحلة قربوا من
تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب
ومعاداة رسله وأوليائه ودينه والسعي في إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة
دعوة غيرها فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها
واستعملوا بها فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقهم إلى منازلهم
سوقا كما قال تعالى (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا)
أي تزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجا وتسوقهم سوقا
القسم الثاني:
**********
قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام وهم ثلاثة أقسام:
ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله وهؤلاء كلهم مستعدون للسير
موقنون بالرجعى إلى الله ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره
وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا
في صفته بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده ومع ذلك فهو متزود ما
يتأذى به في طريقه ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي
الضار
والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة
الرابحة ولم يتزود ما يضره فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع
المكاسب الفاخرة
والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح وشد أحمال التجارات لعلمه بمقدار
المربح الحاصل فيرى خسرانا أن يدخر شيئا مما بيده ولا يتجر به فيجد ربحه
يوم يغتبط التجار بأرباح تجاراتهم فهو كرجل قد علم أن أمامه بلدة الدرهم
يكسب فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد
وخبرة بالتجارة فهو لو أمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إلى
ذلك البلد لفعل
فهكذا حال السابق بالخيرات بإذن الله يرى خسرانا بينا أن يمر عليه وقت في غير متجر
فنذكر بعون الله وفضله نبذة من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد من أي التجار هو :
فأما الظالم لنفسه فإنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها وقد سبقت
حظوظه وشهواته إلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها فإذا زاحمها حقوق ربه فتارة
وتارة فمرة يأخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة ومرة يقدم على الذنب وترك الحق
تهاونا ووعدا بالتوبة فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله
ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح
والخسران وهو للأغلب منهما فإذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه
وحده وخسرانه وحده وكان الحكم للراجح منهما وحكم الله من وراء ذلك لا يعدم
منه فضله وعدله
وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولا نقصوا منها فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذي عليهم
فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة في
وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته
وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلا بها قائما بأعيانها مؤديا واجب الرب
فيها غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه فإذا حضرت الفريضة
الأخرى بادر إليها فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه
فإذا جاء الليل إلى حين النوم يأخذ الواجب ويقوم بحقه وكذلك الزكاة الواجبة
والحج الواجب وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط لا يظلمهم ولا
يترك حقه لهم .
وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان أبرار ومقربون وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم
أهل اليمين وهم المقتصدون والسابقون بالخيرات(الأبرار والمقربون) وأما
الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق وإن كان مآله إلى مصير
المؤمنين بعد أخذ الحق منه
كتاب طريق الهجرتين/ للإمام ابن القيم رحمه الله / ج1/ص288
[center]
[center]::: طريق النجاة :::
*************
قال شيخ الإسلام ابن القيم: "العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو
مسافر فيها إلى ربه. ومدة سفره هي عمره الذي كتب له. فالعمر هو مدة سفر
الإنسان في هذه الدار إلى ربه. ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره.
فكلُّ يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة مرحلة حتى ينتهي
السفر."
" فالكيِّس الفطن (الموفق) هو الذي يجعَل كل مرحلة نُصْبَ عينيه، فيهتم
بقطعها سالما غانما. فإذا قطعها جعل الأخرى نُصْبَ عيْنيه. ولا يطول عليه
الأمد فيقسو قلبه، ويَمْتَدَّ أمله، ويحضر بالتسويف والوعد والتأخير
والمطل. بل يعدّ عمْرَه تلك المرحلة الواحدة. فيجتهد في قطعها بخير ما
بحضرته."
فإذا تيقن قِصَرَها وسرعة انقضائها هان عليه العمل، فطوعت له نفسه
الانقياد إلى التزوُّدِ. فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها
كذلك. فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها. فيحمد سعيه، ويبتهج بما
أعده ليوم فاقته وحاجته. فإذا طلع صبح الآخرة، انقشع ظَلاَمُ الدنيا،
فحينئذ يحمد سُرَاهُ، وينجاب عنه كَراهُ. فما أحسن ما يستقبِلُ يومه وقد
لاح صباحُه، واستبان فلاحه"
ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان :
القسم الأول:
*********
فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاء فكلما قطعوا منها مرحلة قربوا من
تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب
ومعاداة رسله وأوليائه ودينه والسعي في إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة
دعوة غيرها فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها
واستعملوا بها فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقهم إلى منازلهم
سوقا كما قال تعالى (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا)
أي تزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجا وتسوقهم سوقا
القسم الثاني:
**********
قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام وهم ثلاثة أقسام:
ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله وهؤلاء كلهم مستعدون للسير
موقنون بالرجعى إلى الله ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره
وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا
في صفته بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده ومع ذلك فهو متزود ما
يتأذى به في طريقه ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي
الضار
والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة
الرابحة ولم يتزود ما يضره فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع
المكاسب الفاخرة
والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح وشد أحمال التجارات لعلمه بمقدار
المربح الحاصل فيرى خسرانا أن يدخر شيئا مما بيده ولا يتجر به فيجد ربحه
يوم يغتبط التجار بأرباح تجاراتهم فهو كرجل قد علم أن أمامه بلدة الدرهم
يكسب فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد
وخبرة بالتجارة فهو لو أمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إلى
ذلك البلد لفعل
فهكذا حال السابق بالخيرات بإذن الله يرى خسرانا بينا أن يمر عليه وقت في غير متجر
فنذكر بعون الله وفضله نبذة من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد من أي التجار هو :
فأما الظالم لنفسه فإنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها وقد سبقت
حظوظه وشهواته إلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها فإذا زاحمها حقوق ربه فتارة
وتارة فمرة يأخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة ومرة يقدم على الذنب وترك الحق
تهاونا ووعدا بالتوبة فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله
ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح
والخسران وهو للأغلب منهما فإذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه
وحده وخسرانه وحده وكان الحكم للراجح منهما وحكم الله من وراء ذلك لا يعدم
منه فضله وعدله
وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولا نقصوا منها فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذي عليهم
فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة في
وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته
وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلا بها قائما بأعيانها مؤديا واجب الرب
فيها غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه فإذا حضرت الفريضة
الأخرى بادر إليها فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه
فإذا جاء الليل إلى حين النوم يأخذ الواجب ويقوم بحقه وكذلك الزكاة الواجبة
والحج الواجب وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط لا يظلمهم ولا
يترك حقه لهم .
وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان أبرار ومقربون وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم
أهل اليمين وهم المقتصدون والسابقون بالخيرات(الأبرار والمقربون) وأما
الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق وإن كان مآله إلى مصير
المؤمنين بعد أخذ الحق منه
كتاب طريق الهجرتين/ للإمام ابن القيم رحمه الله / ج1/ص288
[/center]
[/center]
[/frame][/center]