[/size]
لا
شك أن لدى الكثير منا من تضيع منه الأيام الأولى في رمضان؛ لأننا لم نحسن
خلال الأشهر ماقبل رمضان الاستعداد لرمضان ، ولكن إن أحسن العبد فى
إستعداده بالطاعات والعبادات فى الأشهر التى تسبقه ....لأحس بقيمة أيام
رمضان وأيامه الأولى بالأخص ، فنحن إذا لم نستعد ، فلا نشعر بقيمة الصيام،
ولا بحلاوة القرآن، ولا بخشوع القيام.. وهذه لحظات ثمينة جداً وفرصٌ
غالية، وأيامٌ فريدة من نوعها ينبغي على العبد المسلم المؤمن والواعى ألاَّ
يفرِّط فيها أبدًا.
ويسعى الكثير والعديد من
الدعاة والعلماء جاهدين أن يضعوا برامج في شهرشعبان؛ لشحذ الهمم، وتنشيط
الكسالى من عباد الله ، مثل الإكثار من الصيام وقراءة القرآن وقيام الليل
إستعداداً للدخول فى شهر رمضان. وقد تعوَّدنا على هذه الأمور، فلا تضيع
منا تلك الجهودُ هباءاً منثورا ..
فنحن نعلم أن الطبيب الذى
سيكون لديه عمليه ما يتجهز لها ويطلع على تقاير تلك العمليه ليحسن أداءها ،
وأيضاً لاعب الكرة الذي لديه مبارة معينة يقوم بعملية الإحماء والتدريب
قبل المباراة حتى يتميز بلياقة بدنية جيدة.
وهذا أيضًا حال أى عبدٍ
مسلم ومسلمة يجب أن يستعد ويتجهز ويشحذ الهمة حتى يُحسن إستغلال شهر رمضان
فى أداء طاعاته ويستغل كل أوقاته وحتى لا "يُفاجَأ" إنه لا يُحسِن استخدام
كل أوقاته، ويضيع منه الشهر حشانا جميعاً هباءاً وسدىٍ.
ولكن الأهم من ذلك
التجهيزالمعنوى ، هناك التجهيز الذهنى للعبد المسلم ، وهذا الذي قد نغفله
كثيرًا، هو الاستعداد "ذهنيًّا" لهذا الشهر الكريم.. بمعنى أن تكون
مترقبًا له، منتظرًا إياه، مشتاقًا لأيامه ولياليه.. تَعُدُّ الساعات التي
تفصل بينك وبينه، وتخشى كثيرًا ألاَّ تبلغه!
ولكن هذه الحالة الشعورية
صعبة، ولكن الذي يصل إليها قبل رمضان يستمتع حقيقةً وبلا شك بهذا الشهر
الكريم.. بل ويستفيد ويستمتع بكل لحظة من لحظاته.
ولهذا يجب أن نقف هنا عند عبارة " [size=21]صُوموا صيامَ مودعٍ .." فهى من أسهل الطرق للوصول إلى هذه الحالة الشعورية الفريدة أن تتخيل بقوَّة أن رمضان القادم هو رمضانك الأخير في هذه الدنيا!!
إن رسولنا الأكرم صلي الله عليه و سلم أوصانا أن نُكثِر من ذكر الموت، فقال: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ".
ولم يحدِّد لنا وردًا
معينًا لتذكُّرِه، فلم يقُلْ مثلاً: تذكروه في كل يوم مرة، أو في كل أسبوع
مرة، أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكنه ترك الأمر لنا، نتفاوت فيه حسب درجة
إيماننا؛ فبينما لا يتذكر بعضُنا الموت إلا عند رؤية الموتى، أو عيادة
المرضى، أو عند المواعظ والدروس، تجد أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-
كان يقول: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ".
وقد قال هذه الكلمات الواعية تعليقًا على حديث الحبيب صلي الله عليه و سلم: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ".
وفي إشارة من الرسول الكريم صلي الله عليه و سلم إلى تذكُّر الموتى كل يومين قال:
"مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
رمضان الأخير مطلب نبوي
إذن
افتراض أن رمضان القادم هو رمضان الأخير افتراض واقعي جدًّا، ومحاولة
الوصول إلى هذا الإحساس هو مطلب نبويٌّ، والمشاهدات العملية تؤكِّد هذا
وترسِّخه.. فكم من أصحابٍ ومعارفَ كانوا معنا في رمضان السابق وهم الآن من
أصحاب القبور! والموت يأتي بغتةً، ولا يعود أحدٌ من الموت إلى الدنيا
أبدًا.. قال تعالى:
{حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
[المؤمنون: 99، 100].
فالعودة من الموت مستحيلة،
وكل الذين يموتون يتمنون العودة، إنْ كان مسيئًا ليتوبَ، وإن كان
مُحسِنًا ليستزيد! فماذا لو مِتنا في آخر رمضان المقبل؟!
إننا -على كل الأحوال- سنتمنَّى العودة لصيام رمضان بشكل جديد، يكون أكثر
نفعًا في قبورنا وآخرتنا.. فلنتخيَّلْ أننا عُدْنا إلى الحياة، وأخذنا
فرصة أخيرة لتجميل حياتنا في هذا الشهر الأخير، ولتعويض ما فاتنا خلال
العمر الطويل، ولتثقيل ميزان الحسنات، ولحسن الاستعداد للقاء الملك
الجبَّار.
هذا هو الشعور الذي معه
ينجح إعدادنا وعملنا بإذن الله في هذا الشهر الكريم.. وليس هذا تشاؤمًا كما
يظنُّ البعض، بل إن هذه نظرة دافعة للعمل، ودافعة -في نفس الوقت- للبذل
والتضحية والعطاء والإبداع.. ولقد حقَّق المسلمون فتوحات عسكرية كثيرة،
ودانت لهم الأرض بكاملها بسبب هذه النظرة المرتقِبة للموت، الجاهزة دومًا
للقاء الله عز وجل.
وما أروع الكلمات التي
قالها سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه لزعيم الفرس هُرمز
عندما وصف الجيش الإسلامي المتَّجِه إلى بلاد فارس فقال: "جئتك برجالٍ
يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة"!!
ولقد حقق هؤلاء الرجال
الذين يحبون الموت كل مجدٍ، وحازوا كل شرفٍ.. ومات بعضهم شهيدًا، وعاش
أكثرهم ممكَّنًا في الأرض، مالكًا للدنيا، ولكن لم تكن الدنيا أبدًا في
قلوبهم.. كيف وهم يوقنون أن الموت سيكون غدًا أو بعد غدٍ؟!
أعمال رمضان الأخير
والآن ماذا أفعل لو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير؟!
لو أني أعلم ذلك ما أضعتُ
فريضة فرضها الله عليَّ أبدًا، بل ولاجْتهدتُ في تجميلها وتحسينها، فلا
أصلي صلواتي إلا في المسجد، ولا ينطلق ذهني هنا وهناك أثناء الصلاة، بل
أخشع فيها تمام الخشوع، ولا أنقرها نقر الغراب، بل أطوِّل فيها، بل أستمتع
بها.. قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي
فِي الصَّلاَةِ".
وإن علم العبدُ أن هذا هو
"رمضان الأخير" لحرص على الحفاظ على صيامه من أن يُنقصِه شيءٌ؛ فرُبَّ
صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.. بل سيحتسب كل لحظة من لحظاته في
سبيل الله، فهو هنا سيجاهد نفسه والشيطان والدنيا بهذا الصيام..
قال رسول الله صلي الله عليه و سلم:
"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وإن علمَ العبد أيضاً أن
هذا هو رمضان الأخير، لحرص على صلاة القيام في مسجد يمتِّعه فيه القارئ
بآيات الله عز وجل ، فيتجول بين صفحات المصحف من أوَّله إلى آخره.. وهو
يتدبَّرُ معه ويتفهَّم القرآن الكريم..
بل إنه سيعود بعد صلاة
القيام الطويلة إلى بيته مشتاقًا إلى كلام ربه ، فيفتحُ كتاب الله ليستزسد
منه ويصصلي التهجد ويستزيد أيضاً ، وبين الفجر والشروق يستزيد.. إنه كلام
ربه..
وكان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يفتح المصحف ويضعه فوق عينيه ويبكي، ويقول: "كلام ربي.. كلام ربي".
وإن علم أيضاً العبدُ أن
هذا هو رمضان الأخير ما تجرأ أبداً على معصية، ولا فتح الجرائد والمجلات
يبحث ملهوفًا عن مواعيد التمثيليات والأفلام والبرامج الساقطة..
إن لحظات العمر صارت
معدودة، وليس معقولاً أن يدمِّر العبدُ مايبنى من خير ، وأن أحطم ما يشيد
من طاعات وعبادات جاهد بها نفسه وشيطانه ..
فهذا الصرح والبنا الضخم الذي نبنيه في رمضان من صيام وقيام وقرآن وصدقة.. كيفنهدمه بنظرة حرام، أو بكلمة فاسدة، أو بضحكة ماجنة؟!
إننا في رمضان الأخير لا نقبل أبداً بوقت ضائع سدىً، ولا بنوم طويل، فكيف بنا نقبلُ على المعاصي والذنوب، والخطايا والآثام؟!
فهذا دربٌ من الجنون وهذا ليس من العقل في شيء.
وإن علمَ العبدُ أيضاً أن
هذا هو رمضان الأخير ما كنزَ مالاً سيتركه للورثة ، بل لبحث فيما ينفعه
عند ربه ، وأكثر من الصدقات فى هذا الشهر الكريم، ولبحث بكل طاقته عن فقيرٍ
محتاج، أو طالب علم مسكين، أو شاب يطلب العفاف ولا يستطيعه، أو مسلمٍ في
ضائقة، أو غير ذلك من أصناف المحتاجين والملهوفين.. ولوقف إلى جوار هؤلاء
بماله ولو كان قليلاً، فهذا هو الذي يبقى له ، أما الذي يحتفظ به فهو الذي
يفنى ويضيع هباءاً!
صُوموا صيامَ مودعٍ ..فماذا سنقول لله حين نلقاه غدًا؟!
هل ينفع عندها عذرٌ أننا
كنا مشغولون بمتابعة مباراة رياضية، أو مهمومن بأخبار اللاعبين ، أو
مهمومون بأخبار فنية، أو حتى مشغولون بأنفسنا وبأفراد أسرتنا ؟!
أين الخوف من لقاء الله عزوجل غداً ؟!
هل سنتداعى بالسهرِ والحُمَّى !!!؟؟؟
هكذا كان يجب أن يكون رمضان الأخير لنا جميعاً ، بل هكذا يجب أن يكون عمرنا كله..
وماذا لو عشنا بعد رمضان؟!
هل نقبل أن يراناالله عز وجل في شوال أو رجب لاهيًن عنه ضائعًين!!!؟؟
وما أروع الوصية التي أوصى
بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وهو
يودِّعه في رحلته الجهادية إلى الشام.. قال أبو بكر:
"يا أبا عبيدة، اعمل صالحًا، وعش مجاهدًا، ولتتوفَّ شهيدًا".
يا الله!
ما أعظمها من وصية!
وما أعمقه من فهم!
فلا يكفي العمل الصالح بل
احرص على ذروة سنام الإسلام.. الجهاد في سبيل الله.. في كل ميادين
الحياة.. جهاد في المعركة مع أعداء المسلمين.. وجهاد باللسان مع سلطان
جائر.. وجهاد بالقرآن مع أصحابٍ الشبهات.. وجهاد بالدعوة مع الغافلين عن
دين الله.. وجهاد للنفس والهوى والشيطان.. وجهاد على الطاعة والعبادة،
وجهاد عن المعصية والشهوة.
إنها حياة المجاهد..
وشتَّان بين من جاهد لحظة ولحظتين، وبين من عاش حياته مجاهدًا!
إننا في رمضاننا الأخير لا
نتكلف الطاعة، بل نعلم أن طاعة الرحمن هي السبيل الوحيد إلى الجنة، وأن
الله عز وجل لا تنفعه طاعة، ولا تضرُّه معصية، وأننا نحن المستفيدون من
عملنا وجهادنا وشهادتنا.
فهيا إلى العمل ، والجهاد
مع النفس .. والصدقَ مع الله ؛ فما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب منها،
والكيِّس ما دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين
اللهم آمين
شك أن لدى الكثير منا من تضيع منه الأيام الأولى في رمضان؛ لأننا لم نحسن
خلال الأشهر ماقبل رمضان الاستعداد لرمضان ، ولكن إن أحسن العبد فى
إستعداده بالطاعات والعبادات فى الأشهر التى تسبقه ....لأحس بقيمة أيام
رمضان وأيامه الأولى بالأخص ، فنحن إذا لم نستعد ، فلا نشعر بقيمة الصيام،
ولا بحلاوة القرآن، ولا بخشوع القيام.. وهذه لحظات ثمينة جداً وفرصٌ
غالية، وأيامٌ فريدة من نوعها ينبغي على العبد المسلم المؤمن والواعى ألاَّ
يفرِّط فيها أبدًا.
ويسعى الكثير والعديد من
الدعاة والعلماء جاهدين أن يضعوا برامج في شهرشعبان؛ لشحذ الهمم، وتنشيط
الكسالى من عباد الله ، مثل الإكثار من الصيام وقراءة القرآن وقيام الليل
إستعداداً للدخول فى شهر رمضان. وقد تعوَّدنا على هذه الأمور، فلا تضيع
منا تلك الجهودُ هباءاً منثورا ..
فنحن نعلم أن الطبيب الذى
سيكون لديه عمليه ما يتجهز لها ويطلع على تقاير تلك العمليه ليحسن أداءها ،
وأيضاً لاعب الكرة الذي لديه مبارة معينة يقوم بعملية الإحماء والتدريب
قبل المباراة حتى يتميز بلياقة بدنية جيدة.
وهذا أيضًا حال أى عبدٍ
مسلم ومسلمة يجب أن يستعد ويتجهز ويشحذ الهمة حتى يُحسن إستغلال شهر رمضان
فى أداء طاعاته ويستغل كل أوقاته وحتى لا "يُفاجَأ" إنه لا يُحسِن استخدام
كل أوقاته، ويضيع منه الشهر حشانا جميعاً هباءاً وسدىٍ.
ولكن الأهم من ذلك
التجهيزالمعنوى ، هناك التجهيز الذهنى للعبد المسلم ، وهذا الذي قد نغفله
كثيرًا، هو الاستعداد "ذهنيًّا" لهذا الشهر الكريم.. بمعنى أن تكون
مترقبًا له، منتظرًا إياه، مشتاقًا لأيامه ولياليه.. تَعُدُّ الساعات التي
تفصل بينك وبينه، وتخشى كثيرًا ألاَّ تبلغه!
ولكن هذه الحالة الشعورية
صعبة، ولكن الذي يصل إليها قبل رمضان يستمتع حقيقةً وبلا شك بهذا الشهر
الكريم.. بل ويستفيد ويستمتع بكل لحظة من لحظاته.
ولهذا يجب أن نقف هنا عند عبارة " [size=21]صُوموا صيامَ مودعٍ .." فهى من أسهل الطرق للوصول إلى هذه الحالة الشعورية الفريدة أن تتخيل بقوَّة أن رمضان القادم هو رمضانك الأخير في هذه الدنيا!!
إن رسولنا الأكرم صلي الله عليه و سلم أوصانا أن نُكثِر من ذكر الموت، فقال: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ".
ولم يحدِّد لنا وردًا
معينًا لتذكُّرِه، فلم يقُلْ مثلاً: تذكروه في كل يوم مرة، أو في كل أسبوع
مرة، أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكنه ترك الأمر لنا، نتفاوت فيه حسب درجة
إيماننا؛ فبينما لا يتذكر بعضُنا الموت إلا عند رؤية الموتى، أو عيادة
المرضى، أو عند المواعظ والدروس، تجد أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-
كان يقول: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ".
وقد قال هذه الكلمات الواعية تعليقًا على حديث الحبيب صلي الله عليه و سلم: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ".
وفي إشارة من الرسول الكريم صلي الله عليه و سلم إلى تذكُّر الموتى كل يومين قال:
"مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
رمضان الأخير مطلب نبوي
إذن
افتراض أن رمضان القادم هو رمضان الأخير افتراض واقعي جدًّا، ومحاولة
الوصول إلى هذا الإحساس هو مطلب نبويٌّ، والمشاهدات العملية تؤكِّد هذا
وترسِّخه.. فكم من أصحابٍ ومعارفَ كانوا معنا في رمضان السابق وهم الآن من
أصحاب القبور! والموت يأتي بغتةً، ولا يعود أحدٌ من الموت إلى الدنيا
أبدًا.. قال تعالى:
{حَتَّى
إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
[المؤمنون: 99، 100].
فالعودة من الموت مستحيلة،
وكل الذين يموتون يتمنون العودة، إنْ كان مسيئًا ليتوبَ، وإن كان
مُحسِنًا ليستزيد! فماذا لو مِتنا في آخر رمضان المقبل؟!
إننا -على كل الأحوال- سنتمنَّى العودة لصيام رمضان بشكل جديد، يكون أكثر
نفعًا في قبورنا وآخرتنا.. فلنتخيَّلْ أننا عُدْنا إلى الحياة، وأخذنا
فرصة أخيرة لتجميل حياتنا في هذا الشهر الأخير، ولتعويض ما فاتنا خلال
العمر الطويل، ولتثقيل ميزان الحسنات، ولحسن الاستعداد للقاء الملك
الجبَّار.
هذا هو الشعور الذي معه
ينجح إعدادنا وعملنا بإذن الله في هذا الشهر الكريم.. وليس هذا تشاؤمًا كما
يظنُّ البعض، بل إن هذه نظرة دافعة للعمل، ودافعة -في نفس الوقت- للبذل
والتضحية والعطاء والإبداع.. ولقد حقَّق المسلمون فتوحات عسكرية كثيرة،
ودانت لهم الأرض بكاملها بسبب هذه النظرة المرتقِبة للموت، الجاهزة دومًا
للقاء الله عز وجل.
وما أروع الكلمات التي
قالها سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه لزعيم الفرس هُرمز
عندما وصف الجيش الإسلامي المتَّجِه إلى بلاد فارس فقال: "جئتك برجالٍ
يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة"!!
ولقد حقق هؤلاء الرجال
الذين يحبون الموت كل مجدٍ، وحازوا كل شرفٍ.. ومات بعضهم شهيدًا، وعاش
أكثرهم ممكَّنًا في الأرض، مالكًا للدنيا، ولكن لم تكن الدنيا أبدًا في
قلوبهم.. كيف وهم يوقنون أن الموت سيكون غدًا أو بعد غدٍ؟!
أعمال رمضان الأخير
والآن ماذا أفعل لو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير؟!
لو أني أعلم ذلك ما أضعتُ
فريضة فرضها الله عليَّ أبدًا، بل ولاجْتهدتُ في تجميلها وتحسينها، فلا
أصلي صلواتي إلا في المسجد، ولا ينطلق ذهني هنا وهناك أثناء الصلاة، بل
أخشع فيها تمام الخشوع، ولا أنقرها نقر الغراب، بل أطوِّل فيها، بل أستمتع
بها.. قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي
فِي الصَّلاَةِ".
وإن علم العبدُ أن هذا هو
"رمضان الأخير" لحرص على الحفاظ على صيامه من أن يُنقصِه شيءٌ؛ فرُبَّ
صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.. بل سيحتسب كل لحظة من لحظاته في
سبيل الله، فهو هنا سيجاهد نفسه والشيطان والدنيا بهذا الصيام..
قال رسول الله صلي الله عليه و سلم:
"مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وإن علمَ العبد أيضاً أن
هذا هو رمضان الأخير، لحرص على صلاة القيام في مسجد يمتِّعه فيه القارئ
بآيات الله عز وجل ، فيتجول بين صفحات المصحف من أوَّله إلى آخره.. وهو
يتدبَّرُ معه ويتفهَّم القرآن الكريم..
بل إنه سيعود بعد صلاة
القيام الطويلة إلى بيته مشتاقًا إلى كلام ربه ، فيفتحُ كتاب الله ليستزسد
منه ويصصلي التهجد ويستزيد أيضاً ، وبين الفجر والشروق يستزيد.. إنه كلام
ربه..
وكان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يفتح المصحف ويضعه فوق عينيه ويبكي، ويقول: "كلام ربي.. كلام ربي".
وإن علم أيضاً العبدُ أن
هذا هو رمضان الأخير ما تجرأ أبداً على معصية، ولا فتح الجرائد والمجلات
يبحث ملهوفًا عن مواعيد التمثيليات والأفلام والبرامج الساقطة..
إن لحظات العمر صارت
معدودة، وليس معقولاً أن يدمِّر العبدُ مايبنى من خير ، وأن أحطم ما يشيد
من طاعات وعبادات جاهد بها نفسه وشيطانه ..
فهذا الصرح والبنا الضخم الذي نبنيه في رمضان من صيام وقيام وقرآن وصدقة.. كيفنهدمه بنظرة حرام، أو بكلمة فاسدة، أو بضحكة ماجنة؟!
إننا في رمضان الأخير لا نقبل أبداً بوقت ضائع سدىً، ولا بنوم طويل، فكيف بنا نقبلُ على المعاصي والذنوب، والخطايا والآثام؟!
فهذا دربٌ من الجنون وهذا ليس من العقل في شيء.
وإن علمَ العبدُ أيضاً أن
هذا هو رمضان الأخير ما كنزَ مالاً سيتركه للورثة ، بل لبحث فيما ينفعه
عند ربه ، وأكثر من الصدقات فى هذا الشهر الكريم، ولبحث بكل طاقته عن فقيرٍ
محتاج، أو طالب علم مسكين، أو شاب يطلب العفاف ولا يستطيعه، أو مسلمٍ في
ضائقة، أو غير ذلك من أصناف المحتاجين والملهوفين.. ولوقف إلى جوار هؤلاء
بماله ولو كان قليلاً، فهذا هو الذي يبقى له ، أما الذي يحتفظ به فهو الذي
يفنى ويضيع هباءاً!
صُوموا صيامَ مودعٍ ..فماذا سنقول لله حين نلقاه غدًا؟!
هل ينفع عندها عذرٌ أننا
كنا مشغولون بمتابعة مباراة رياضية، أو مهمومن بأخبار اللاعبين ، أو
مهمومون بأخبار فنية، أو حتى مشغولون بأنفسنا وبأفراد أسرتنا ؟!
أين الخوف من لقاء الله عزوجل غداً ؟!
هل سنتداعى بالسهرِ والحُمَّى !!!؟؟؟
هكذا كان يجب أن يكون رمضان الأخير لنا جميعاً ، بل هكذا يجب أن يكون عمرنا كله..
وماذا لو عشنا بعد رمضان؟!
هل نقبل أن يراناالله عز وجل في شوال أو رجب لاهيًن عنه ضائعًين!!!؟؟
وما أروع الوصية التي أوصى
بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وهو
يودِّعه في رحلته الجهادية إلى الشام.. قال أبو بكر:
"يا أبا عبيدة، اعمل صالحًا، وعش مجاهدًا، ولتتوفَّ شهيدًا".
يا الله!
ما أعظمها من وصية!
وما أعمقه من فهم!
فلا يكفي العمل الصالح بل
احرص على ذروة سنام الإسلام.. الجهاد في سبيل الله.. في كل ميادين
الحياة.. جهاد في المعركة مع أعداء المسلمين.. وجهاد باللسان مع سلطان
جائر.. وجهاد بالقرآن مع أصحابٍ الشبهات.. وجهاد بالدعوة مع الغافلين عن
دين الله.. وجهاد للنفس والهوى والشيطان.. وجهاد على الطاعة والعبادة،
وجهاد عن المعصية والشهوة.
إنها حياة المجاهد..
وشتَّان بين من جاهد لحظة ولحظتين، وبين من عاش حياته مجاهدًا!
إننا في رمضاننا الأخير لا
نتكلف الطاعة، بل نعلم أن طاعة الرحمن هي السبيل الوحيد إلى الجنة، وأن
الله عز وجل لا تنفعه طاعة، ولا تضرُّه معصية، وأننا نحن المستفيدون من
عملنا وجهادنا وشهادتنا.
فهيا إلى العمل ، والجهاد
مع النفس .. والصدقَ مع الله ؛ فما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب منها،
والكيِّس ما دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين
اللهم آمين