لتحكيم السليم للمنازعات
إن التسوية القضائية للمنازعات تدخل في عموم التسوية السلمية للمنازعات والقضاء سلطة من سلطات الدولة الأساسية الثلاث ، وولايته ولاية اجبارية يخضع لها الناس جمعيا وفقا للدستور والقانون ، والحكم القضائي النهائي نافذ بذاته ، وعلي كل السلطات بالدولة أن تعمل علي وضعه موضع التنفيذ وعلي ذلك فإن القضاء هو أهم الوسائل السلمية لتسوية المنازعات .
وتتم التسوية الثانية للمنازعات عن طريق التحكيم – والتحكيم في أبسط تعريفاته هو نوع من القضاء الاختياري ، ذلك أن أطرافا متنازعة يتفقون علي حل منازعتهم أو خلافاتهم باللجوء الي محكم أو عدد من المحكمين يرتضونهم لكي يقوموا هم بحل النزاع ويرتضي أطراف المنازعة سلفا قبول ما ينتهي إليه هؤلاء المحكمون .
علي أن التحكيم هو أقدم صورة التسوية السلمية للمنازعات وأحدثها في آن واحد فقبل وجود الدولة الحديثة ووجود القضاء – سلطة من سلطات الدولة له الولاية الاجبارية لفض المنازعات والحكم فيها، فإن الناس كانت لهم بطبيعة الحال علاقات وكان ينتج عن هذه العلاقات وخلافات ومنازعات ، وكان لابد من وسيلة لفض هذه المنازعات وكانت الحروب القبلية والقوة بكل صورها وسيلة من وسائل تحصيل الحقوق ، ولكن ذلك لا يدخل في باب التسوية السلمية وكانت صورة التسوية السلمية هي اللجوء الي ذوي الشأن ( لرجل الدين ، أو لشيخ القبيلة ، أو لأحد الحكماء ) لكي يفصل في نزاعهم ويرتضي المتنازعون ما ينتهي اليه ذلك الشخص . وكانت هذه هي الصورة البدائية الأولي من صور التحكيم .
وظلت هذه الصورة البدائية هي السائدة في العصور القديمة ، الي أن ظهرت سلطة الدولة واحتكرت سلطة فض المنازعات بين الناس عن طريق عمال الدولة وموظفيها الذين كانوا في العادة يفصلون في المنازعات باسم الملك او الامير وكان الملك أو الامير أو الخليفة هو قاضي القضاة أو هو القاضي الاول وكان الاخرون مندوبين عنه يحكمون باسمه ثم تطور الأمر الي أن أصبح القضاء سلطة مستقلة من سلطات الدولة الحديثة له الولاية الاجبارية في الحكم في سائر المنازعات المدينة وفي القضايا الجنائية وفقا للقوانين المنظمة للقضاء في ظل دستور الدولة .
وعندما نقول أن الدولة الحديثة دولة قانونية فإننا نعني أن السيادة فيها لحكم القانون وليس لإرادات الأفراد والذي يطبق القانون هم القضاة وهم وحدهم أصحاب الولاية في الفصل في المنازعات .
ولكن المنازعات في الدولة الحديثة اتسعت وتشابكت وتعددت أطرافها ، ومنذ نهاية القرن الماضي وحتي الأن ووسيلة التحكيم تزداد أهميتها ويتطور تنظيمها .
ومن غير شك فإن التحكيم وسيلة أسرع لفض المنازعات ذلك أن اللجوء الي القضاء العادي بدرجاته المتعددة قد يؤدي الي مرور سنوات طوال دون أن يفصل في المنازعة وقد تكون هذه السرعة هي الحافز الأساسي للجوء الي التحكيم وتفادي الإجراءات المعقدة الطويلة أمام القضاء العادي .
ومن ناحية أخري فإن تعقد العلاقات الاقتصادية والتطور التكنولوجي الهائل جعل جانبا من المنازعات يتعذر علي القاضي العادي إدراكه وفهمه إلا بالرجوع الي الخبراء وهذا في حد ذاته يطيل أمد المنازعة ويعجل أطرافها يفضلون تحكيم خبراء في نوعية النزاع بدلا من اللجوء الي قضاة لايملكون غير ثقافتهم القانونية .
ومن ناحية ثالثة : فإن النصوص القانونية تبدو أحيانا عاجزة أو قاصرة أو غير محققة وحدها للعدالة ويبدو التحكيم أهلا لتحقيق ذلك .
وهذا كله يعجل التحكيم جديرا بالتصدي للفصل في منازعة كل عناصرها وطنية أو في اطار اقتصاد بلد واحد ولكن العلاقات التجارية الدولية الحديثة أوجدت نوعا جديدا وهاما من العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية والدولية التي تتعدد فيها الاطراف الدولية وتتعدي العلاقة التي تثور بشأنها المنازعة حدود الدولة بل تمتد الي عديد من الدول مما يثير مشاكل كثيرة حول الاختصاص القضائي وحول القانون الواجب التطبيق .
وللتحكيم عدة صور ، تتعدد بتعدد الاعتبارات :
فمن حيث إطار المنازعة التي يتصدي التحكيم ، له صورتان :
1- التحكيم الداخلي : وهو التحكيم الذي يتصدي لفض منازعات عناصرها كلها موجودة في اطار دولة واحدة .
2- التحكيم الدولي : وهو التحكيم الذي يتصدي لفض منازعات فيها عنصر أو عناصر تتعدي إطار الدولة الواحدة ، ويشمل الحالتين : حالة التحكيم الداخلي ، وحالة التحكيم الدولي .
ومن حيث نوعية تنظيمة ، توجد صورتان من صور التحكيم :
1- التحكيم ذو التنظيم العارض :
وهو التحكيم الذي يكون غالبا تحكيما داخليا ، حيث يحتوي العقد علي شرط التحكيم الذي أثار المنازعة وينص فيه علي حق المتنازعين في أن يختاروا محكما واحد أو أن يختار كل منهم محكما ثم يختار المحكمان محكما ثالثا أو يتم اختيار المحكم الثالث بطريقة أخري متفق عليها سلفا .
كأن يقال مثلا إن نقيب المهندسين أو رئيس محكمة النقض هو الذي يختار المحكم الثالث .
ومن حق الطرفين أن يختارا القواعد الموضوعية التي تطبق علي النزاع بما لا يتعارض مع النظام العام للدولة .
كذلك فإن من حق هيئة التحكيم أن تحدد الاجراءات التي تسير عليها بما لايؤدي الي الإخلال بحق الدفاع وهذا النوع من التحكيم هو التحكيم الغالب في المنازعات الداخلية .
2- التحكيم ذو التنظيم المؤسسي :
ويتحقيق هذا النظام في المنازعات ذات العنصر الأجنبي أو الدولي ويتصور بشأنها الوسيلة السابقة أيضا والتي تقوم علي اختيار المحكمين . لكن الغالب أنه في قضايا التحكيم الدولية يتم اللجوء عادة الي مؤسسات التحكيم . وأهم هذه المؤسسات التحكيمية في الوقت الراهن : غرفة التجارة الدولية في باريس ، وهيئة التحكيم الأمريكية ، ومحكمة لندن للتحكيم .
وقد اهتمت الامم المتحدة بالتحكيم الدولي ووضعت نموذجا خاصا بالتحكيم الدولي ( لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي )
كذلك فقد عقدت العديد من المعاهدات الدولية التي هدفت الي تنظيم أمور التحكيم وتنظيم كيفية تنفيذ أحكام المحكمين في البلاد المختلفة . نذكر من هذه المعاهدات :
- إتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية 1958 .
- اتفاقية جينف الأوربية 1961 .
- قواعد الاشتراك 1976- 1986 ( القانون النموذجي )
- اتفاقية البنك الدولي 1965
- اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري الدولي ( في آخر الثمانينات ) وبمقتضاها أنشيء مركز للتحكيم في الرباط .
- غرفة التحكيم العربية التي تضم كلا من اتحاد المهندسين العرب ، واتحاد المقاولين العرب ، واتحاد المحامين العرب .
ولابد من الاشارة – أخيرا – الي مركز القاهرة للتحكيم التجاري الإقليمي والدولي والذي يعتبر أحد المراكز التي أقرتها وساهمت في إنشائها الأمم المتحدة عن طريق لجنتها للقانون التجاري الدولي والذي يحظي بثقة الكثيرين في الداخل والخارج كما أن له دورا مهما في التحكيم التجاري ، سواء علي المستوي الاقليمي العربي أو المستوي الدولي.