[size=25]من وسائل تربية المسلمين على الصبر وتحمل الأذى دراسة التاريخ؛ الهادى البشيرفالتاريخ يكرر نفسه، ودراسة التاريخ تعرض لك
صورًا واقعية من الماضي لأناس عاشوا تقريبًا نفس الأحداث التي تعيش فيها الآن، ثم ترى كيف تعاملوا مع هذه الأحداث،
وترى أيضًا كيف كانت النتائج النهائية.
فالأحداث والملابسات واحدة، حرب بين الحق والباطل،
وعلو للباطل حينًا من الدهر وفترة من الوقت، يحدث فيها تعذيب وتشريد، وقتل
وإبادة،
ومن المؤمنين صبر وجلد وتحمل، ثم في نهاية الأمر انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له،
وهي صورة مكررة في كل صفحات التاريخ، وسنة من سنن الله.
ومن جديد نرجع إلى القرآن المكي، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من قصة أو إشارة إلى قصة من قصص المؤمنين السابقين مع أهل الباطل،
وكيف صبروا على التعذيب والإيذاء، ثم كيف مُكّن لهم بعد ذلك.
كان من ذلك -على سبيل المثال- قصة موسى ، وقد تناولها القرآن الكريم من أكثر من زاوية وبأكثر من طريقة،
وبإشارات مباشرة وغير مباشرة.
وكان من ذلك ما جاء في قوله تعالى:
{إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ}
[القصص: 4]. وهي درجة عظيمة جدًّا من الألم والإيذاء كان قد تعرض لها المؤمنون على يد فرعون، وهي بعدُ لم تحدث مع الصحابة،
ثم يلي هذه الآيات قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}
[القصص: 5].
ونفس أحداث السورة تتكرر، فإن كانت قد تكررت في مكة من قبل فهي تتكرر اليوم وإلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر
مع مثل هذه الأحداث فإن التمكين – لا محالة – سيتكرر؛ لأنه سنة من سنن الله.
وكان من هذا القصص المكي أيضًا قوله تعالى حكاية عن قوم نوح :
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}
[القمر: 9].
وقد حدث هذا مع رسول الله
{فَدَعَا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا
فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
[القمر: 10- 15].
وعلى هذا الغرار جاءت قصة هود ولوط وشعيب وصالح ويوسف وغيرهم، كل هذا في صورة واقعية حقيقية وبأسلوب شائق لا تمله النفوس،
واللهأعلم بطبيعة خلقه وما يحتاجون إليه وما ينفعهم، وهو الذي اختار لهم هذا الأسلوب التربوي الرائع.
ومن هنا فإن دراسة وفقه التاريخ وتحليله أمر غاية في الأهمية؛ وذلك لتربية الصف المؤمن على الصبر والثبات،
ولوضع يده (الصف المؤمن) على كل مفاتيح النصر الحقيقية.
زرع الأمل في النفوس
ومن الوسائل التربوية الرائعة لتشجيع المؤمنين على الصبر وتحمل الأذى هي زرع الأمل في نفوسهم؛
فإذا ما أحبط الإنسان فلا أمل في صبره، ولا أمل في نصره، ولا أمل في تمكينه.
وفي القرآن المكي أيضًا نجد قوله تعالى:
{وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ}
[يوسف: 87].
وقوله تعالى أيضًا:
{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَْ}
[الحجر: 56].
ومثله أيضًا:
{اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
[الأعراف: 128].
فالله I لكي يُعلّم المؤمنين
الصبر فإنه يريهم الأمل، ومن هنا نفهم موقف الرسول حين جاءه خباب بن
الأرَتّ ( رضى الله عنه ) حين اشتد عليه التعذيب يطلب منه
أن يدعو الله لهم ليرفع عنهم البلاء.
يقول تعالى:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}
[الأنبياء: 105].
وإن نقطة الأمل هذه لهي من أهم النقاط التربوية في تربية المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق والأذى،
ومن هنا فلا بد أن يفرغ الدعاة أوقاتهم لزرع الأمل في قلوب الناس، وأن يربّوهم على مصداق
قوله تعالى:
{مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
[الحج: 15].
فليس للحياة قيمة إذا انقطع الأمل، وعلى هذا الضوء نتفهم غضب رسول الله
عندما جاءه خباب بن الأرت يقول له:
ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟!
وكان خباب قد فاض به، فقد عُذّب تعذيبًا شديدًا؛ إذ كان يُكوى رأسه بالنار، وكان يوضع على الفحم الملتهب،
وقد يكون طبيعيًّا لرجل مر بهذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله يطلب منه الدعاء
والاستنصار برب العالمين، وهو يعلم أنه مستجاب الدعوة.
وإلى هذا الحد كان الأمر يبدو طبيعيًّا،
لكن الذي حدث كان غريبًا جدًّا، فقد كان رد فعل رسول الله على غير ما نتوقع.
فقد غضب الرسول حتى بدا ذلك واضحًا على وجهه،
يروي ذلك خباب -كما جاء في رواية البخارى - فيقول:
فقعد رسول الله وهو محمر وجهه (أي غيّر من جلسته من شدة غضبه وقد احمرّ وجهه)، فقال:
“كَانَ
الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ
فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ
بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،
وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،
وَاللَّهِ
لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ
إلى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى
غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ“.
وأمام غضب رسول اللههذا لا بد لنا من وقفة تربوية مهمة؛ إذ من المؤكد أن غضبهلم يكن لمجرد طلب الدعاء،
بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف.
لكن الذي حدث هو أن رسول اللهشعر أن خبابًا قد بدأ يدخله اليأس،
بدأ يحبط ويفقد الأمل، وإن فقدان الأمل لأمر خطير.
شعر رسول الله أن خبابًا يستبطئ النصر، بينما الأصل أن المؤمنين يعلمون أن الله بيده النصر
، ويأتي به في الوقت الذي يريده، ولحكمة يعلمها .
لكن غضب رسول اللهلم يخرجه عن أسلوبه التربوي الراقي،
بل أخذ يربي خبابًا، فسلك في سبيل ذلك أكثر من طريق.
الطريق الأول:
التربية بالتاريخ
ولا شك أن تربية التاريخ عظيمة الأثر، فقد ذكر له رسول اللهأحداثًا من التاريخ مر فيها المؤمنون
بما هو أشق مما كان قد أصابه؛
وذلك أن الناس عادة ما تصبر على مصائبها وما ينزل بها إذا ما رأت أن غيرها
قد ابتلي بما هو أشد منها وصبر على ذلك.
الطريق الثاني:
زرع الأمل
بعد المسلك الأول وتهوين الأمر، أخذفي زرع الأمل في قلب خباب؛
فأقسم بالله وبيقين كامل مؤكدًا يقول:
“وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ...” إلخ، وكانت النتيجة أن زاد صبر خباب ،
واطمأن قلبه بنصر الله وتمكينه لدينه.
الطريق الثالث:
التذكير بالله والتعظيم لقدره
وذلك في قوله:
“لا يخاف إلا الله“.
الطريق الرابع:
الأخذ بالأسباب
وذلك من قوله: “والذئب على غنمه“، فليس معنى التوكل على الله عدم الأخذ بالأسباب، فما زالت السرية موجودة،
وما زال الصبر موجودًا، وما زالت الدعوة إلى الله قائمة، وما زال انتظار التمكين يملأ القلوب.
فالناس تعمل وتُربَّى في هذا الوقت، وترفع من درجات إيمانهم.
وكانت النتيجة أن خبابًا ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك،
حتى إنه قد سأله عمر بن الخطاب عما لقيه في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص (مات جلده)
ففزع عمر بن الخطاب
وقال: ما رأيت كاليوم. فقال خباب: يا أمير المؤمنين، لقد أوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها،
ثم وضع رجلٌ رِجْلَه على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي.
فإذا بلغْت هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، وكن صابرًا كخباب،
وتذكر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ}
[القمر: 49، 50].
وسائل أخرى معينة على الصبر
بعد هذه الوسائل الأربع -التي ذكرناها في المقالات السابقة وهي تعظيم قدر الله ورفع قيمة الدار الآخرة ودراسة التاريخ
وزرع الأمل في النفوس- من الوسائل المعينة على الصبر وتحمل الأذى، كانت هناك أيضًا وسائل أخرى كثيرة تعين
على زرع الصبر في قلوب المؤمنين في زمن الاستضعاف.
وهي وسائل قد استخرجتها من أوائل السور التي نزلت على رسول اللهفي مكة
، والتي علّمت الرسول وعلمت الصحابة كيف يصبرون على هذا الطريق الطويل،
حيث يقول في سورة المدثر:
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
[المدَّثر: 7].
ويقول أيضًا في سورة المزمل:
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}
[المزمل: 10].
فكان منها ما يلي:
العلم والقراءة
وذلك كما في الآيات الخمس الأُوَل من سورة العلق:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ}
[العلق: 1- 5].
فمن يعرف أكثر لا شك أنه سيصبر أكثر، ويجب أن نعي أمرًا غاية في الأهمية، وهو أن القراءة ليست هواية كما يظن أو يعتقد البعض،
إنما هي بالنسبة للمسلم كما الطعام والشراب؛ إذ لا حياة بدونهما.
ومن هنا فلكي تصبر يجب أن تتعلم، ولكي تتعلم يجب أن تقرأ، ومن غير القراءة فلن تُحصّل علمًا،
وإن دروس العلم مهما كثرت فلن تعطيك غير جزء ضئيل من العلم الذي ينبغي عليك أن تحصله.
قيام الليل
يقول تعالى:
{قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}
[المزمل: 1- 4].
فلن يستطيع أن يصبر من لم يتعود قيام الليل، ولهذا فُرض على الصحابة قيام الليل سنة كاملة،
وحين نزل التخفيف لم يترك ذلك أحد منهم، فإذا أردت أن تصبر فلا بد أن تتعلم قيام الليل.
قراءة القرآن
يقول تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلاً}
[المزمل: 4].
فالقرآن زاد، ولا يستطيع المسلم أن يصبر بدون هذا الزاد.
الذكر
يقول تعالى:
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}
[المزمل: 8].
فالذكر أيضًا زاد، ولكي يصبر أي مسلم لا بد أن يذكر الله، والذي نعته الله بالكثرة فقال:
{وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}
[الأحزاب: 35].
وقال أيضًا:
{وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: 45].
فكلما كان ذكر الله كثيرًا، كان الصبر أكثر.
ترك المعاصي والذنوب
يقول تعالى:
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
[المدَّثر: 5].
فكيف يصبر الغارق في أوحال المعاصي؟!
الأخوة في الله
يقول تعالى:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا}
[الكهف: 28].
فحين ترى أناسًا يسيرون معك في نفس الاتجاه فهذا سيعينك كثيرًا،
ويقوي ظهرك على الصبر.
وبعد، فهذه كلها وغيرها أمور تعين على الصبر وتحمل الأذى، نعدِّدها ثانية كما يلي:
1- تعظيم قدر الله في القلب.
2- تعظيم الآخرة.
3- دراسة التاريخ.
4- زرع الأمل في نفوس المؤمنين.
5- العلم والقراءة.
6- قراءة القرآن.
7- قيام الليل.
8- الذكر.
9- ترك المعاصي والذنوب.
10- الأخوة في الله.
فتلك عشرة كاملة، ليس هناك صبر بدونها، وكل منها يحتاج إلى دراسة جادة.
[center] د. راغب السرجاني
http://www.nourislamna.com/vb/t18719.html
صورًا واقعية من الماضي لأناس عاشوا تقريبًا نفس الأحداث التي تعيش فيها الآن، ثم ترى كيف تعاملوا مع هذه الأحداث،
وترى أيضًا كيف كانت النتائج النهائية.
فالأحداث والملابسات واحدة، حرب بين الحق والباطل،
وعلو للباطل حينًا من الدهر وفترة من الوقت، يحدث فيها تعذيب وتشريد، وقتل
وإبادة،
ومن المؤمنين صبر وجلد وتحمل، ثم في نهاية الأمر انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له،
وهي صورة مكررة في كل صفحات التاريخ، وسنة من سنن الله.
ومن جديد نرجع إلى القرآن المكي، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من قصة أو إشارة إلى قصة من قصص المؤمنين السابقين مع أهل الباطل،
وكيف صبروا على التعذيب والإيذاء، ثم كيف مُكّن لهم بعد ذلك.
كان من ذلك -على سبيل المثال- قصة موسى ، وقد تناولها القرآن الكريم من أكثر من زاوية وبأكثر من طريقة،
وبإشارات مباشرة وغير مباشرة.
وكان من ذلك ما جاء في قوله تعالى:
{إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ}
[القصص: 4]. وهي درجة عظيمة جدًّا من الألم والإيذاء كان قد تعرض لها المؤمنون على يد فرعون، وهي بعدُ لم تحدث مع الصحابة،
ثم يلي هذه الآيات قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}
[القصص: 5].
ونفس أحداث السورة تتكرر، فإن كانت قد تكررت في مكة من قبل فهي تتكرر اليوم وإلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر
مع مثل هذه الأحداث فإن التمكين – لا محالة – سيتكرر؛ لأنه سنة من سنن الله.
وكان من هذا القصص المكي أيضًا قوله تعالى حكاية عن قوم نوح :
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}
[القمر: 9].
وقد حدث هذا مع رسول الله
{فَدَعَا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا
فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
[القمر: 10- 15].
وعلى هذا الغرار جاءت قصة هود ولوط وشعيب وصالح ويوسف وغيرهم، كل هذا في صورة واقعية حقيقية وبأسلوب شائق لا تمله النفوس،
واللهأعلم بطبيعة خلقه وما يحتاجون إليه وما ينفعهم، وهو الذي اختار لهم هذا الأسلوب التربوي الرائع.
ومن هنا فإن دراسة وفقه التاريخ وتحليله أمر غاية في الأهمية؛ وذلك لتربية الصف المؤمن على الصبر والثبات،
ولوضع يده (الصف المؤمن) على كل مفاتيح النصر الحقيقية.
زرع الأمل في النفوس
ومن الوسائل التربوية الرائعة لتشجيع المؤمنين على الصبر وتحمل الأذى هي زرع الأمل في نفوسهم؛
فإذا ما أحبط الإنسان فلا أمل في صبره، ولا أمل في نصره، ولا أمل في تمكينه.
وفي القرآن المكي أيضًا نجد قوله تعالى:
{وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ}
[يوسف: 87].
وقوله تعالى أيضًا:
{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَْ}
[الحجر: 56].
ومثله أيضًا:
{اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
[الأعراف: 128].
فالله I لكي يُعلّم المؤمنين
الصبر فإنه يريهم الأمل، ومن هنا نفهم موقف الرسول حين جاءه خباب بن
الأرَتّ ( رضى الله عنه ) حين اشتد عليه التعذيب يطلب منه
أن يدعو الله لهم ليرفع عنهم البلاء.
يقول تعالى:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}
[الأنبياء: 105].
وإن نقطة الأمل هذه لهي من أهم النقاط التربوية في تربية المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق والأذى،
ومن هنا فلا بد أن يفرغ الدعاة أوقاتهم لزرع الأمل في قلوب الناس، وأن يربّوهم على مصداق
قوله تعالى:
{مَنْ
كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
[الحج: 15].
فليس للحياة قيمة إذا انقطع الأمل، وعلى هذا الضوء نتفهم غضب رسول الله
عندما جاءه خباب بن الأرت يقول له:
ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟!
وكان خباب قد فاض به، فقد عُذّب تعذيبًا شديدًا؛ إذ كان يُكوى رأسه بالنار، وكان يوضع على الفحم الملتهب،
وقد يكون طبيعيًّا لرجل مر بهذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله يطلب منه الدعاء
والاستنصار برب العالمين، وهو يعلم أنه مستجاب الدعوة.
وإلى هذا الحد كان الأمر يبدو طبيعيًّا،
لكن الذي حدث كان غريبًا جدًّا، فقد كان رد فعل رسول الله على غير ما نتوقع.
فقد غضب الرسول حتى بدا ذلك واضحًا على وجهه،
يروي ذلك خباب -كما جاء في رواية البخارى - فيقول:
فقعد رسول الله وهو محمر وجهه (أي غيّر من جلسته من شدة غضبه وقد احمرّ وجهه)، فقال:
“كَانَ
الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ
فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ
بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،
وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،
وَاللَّهِ
لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ
إلى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى
غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ“.
وأمام غضب رسول اللههذا لا بد لنا من وقفة تربوية مهمة؛ إذ من المؤكد أن غضبهلم يكن لمجرد طلب الدعاء،
بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف.
لكن الذي حدث هو أن رسول اللهشعر أن خبابًا قد بدأ يدخله اليأس،
بدأ يحبط ويفقد الأمل، وإن فقدان الأمل لأمر خطير.
شعر رسول الله أن خبابًا يستبطئ النصر، بينما الأصل أن المؤمنين يعلمون أن الله بيده النصر
، ويأتي به في الوقت الذي يريده، ولحكمة يعلمها .
لكن غضب رسول اللهلم يخرجه عن أسلوبه التربوي الراقي،
بل أخذ يربي خبابًا، فسلك في سبيل ذلك أكثر من طريق.
الطريق الأول:
التربية بالتاريخ
ولا شك أن تربية التاريخ عظيمة الأثر، فقد ذكر له رسول اللهأحداثًا من التاريخ مر فيها المؤمنون
بما هو أشق مما كان قد أصابه؛
وذلك أن الناس عادة ما تصبر على مصائبها وما ينزل بها إذا ما رأت أن غيرها
قد ابتلي بما هو أشد منها وصبر على ذلك.
الطريق الثاني:
زرع الأمل
بعد المسلك الأول وتهوين الأمر، أخذفي زرع الأمل في قلب خباب؛
فأقسم بالله وبيقين كامل مؤكدًا يقول:
“وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ...” إلخ، وكانت النتيجة أن زاد صبر خباب ،
واطمأن قلبه بنصر الله وتمكينه لدينه.
الطريق الثالث:
التذكير بالله والتعظيم لقدره
وذلك في قوله:
“لا يخاف إلا الله“.
الطريق الرابع:
الأخذ بالأسباب
وذلك من قوله: “والذئب على غنمه“، فليس معنى التوكل على الله عدم الأخذ بالأسباب، فما زالت السرية موجودة،
وما زال الصبر موجودًا، وما زالت الدعوة إلى الله قائمة، وما زال انتظار التمكين يملأ القلوب.
فالناس تعمل وتُربَّى في هذا الوقت، وترفع من درجات إيمانهم.
وكانت النتيجة أن خبابًا ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك،
حتى إنه قد سأله عمر بن الخطاب عما لقيه في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص (مات جلده)
ففزع عمر بن الخطاب
وقال: ما رأيت كاليوم. فقال خباب: يا أمير المؤمنين، لقد أوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها،
ثم وضع رجلٌ رِجْلَه على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي.
فإذا بلغْت هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، وكن صابرًا كخباب،
وتذكر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ}
[القمر: 49، 50].
وسائل أخرى معينة على الصبر
بعد هذه الوسائل الأربع -التي ذكرناها في المقالات السابقة وهي تعظيم قدر الله ورفع قيمة الدار الآخرة ودراسة التاريخ
وزرع الأمل في النفوس- من الوسائل المعينة على الصبر وتحمل الأذى، كانت هناك أيضًا وسائل أخرى كثيرة تعين
على زرع الصبر في قلوب المؤمنين في زمن الاستضعاف.
وهي وسائل قد استخرجتها من أوائل السور التي نزلت على رسول اللهفي مكة
، والتي علّمت الرسول وعلمت الصحابة كيف يصبرون على هذا الطريق الطويل،
حيث يقول في سورة المدثر:
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
[المدَّثر: 7].
ويقول أيضًا في سورة المزمل:
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}
[المزمل: 10].
فكان منها ما يلي:
العلم والقراءة
وذلك كما في الآيات الخمس الأُوَل من سورة العلق:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ}
[العلق: 1- 5].
فمن يعرف أكثر لا شك أنه سيصبر أكثر، ويجب أن نعي أمرًا غاية في الأهمية، وهو أن القراءة ليست هواية كما يظن أو يعتقد البعض،
إنما هي بالنسبة للمسلم كما الطعام والشراب؛ إذ لا حياة بدونهما.
ومن هنا فلكي تصبر يجب أن تتعلم، ولكي تتعلم يجب أن تقرأ، ومن غير القراءة فلن تُحصّل علمًا،
وإن دروس العلم مهما كثرت فلن تعطيك غير جزء ضئيل من العلم الذي ينبغي عليك أن تحصله.
قيام الليل
يقول تعالى:
{قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}
[المزمل: 1- 4].
فلن يستطيع أن يصبر من لم يتعود قيام الليل، ولهذا فُرض على الصحابة قيام الليل سنة كاملة،
وحين نزل التخفيف لم يترك ذلك أحد منهم، فإذا أردت أن تصبر فلا بد أن تتعلم قيام الليل.
قراءة القرآن
يقول تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلاً}
[المزمل: 4].
فالقرآن زاد، ولا يستطيع المسلم أن يصبر بدون هذا الزاد.
الذكر
يقول تعالى:
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}
[المزمل: 8].
فالذكر أيضًا زاد، ولكي يصبر أي مسلم لا بد أن يذكر الله، والذي نعته الله بالكثرة فقال:
{وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}
[الأحزاب: 35].
وقال أيضًا:
{وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: 45].
فكلما كان ذكر الله كثيرًا، كان الصبر أكثر.
ترك المعاصي والذنوب
يقول تعالى:
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
[المدَّثر: 5].
فكيف يصبر الغارق في أوحال المعاصي؟!
الأخوة في الله
يقول تعالى:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا}
[الكهف: 28].
فحين ترى أناسًا يسيرون معك في نفس الاتجاه فهذا سيعينك كثيرًا،
ويقوي ظهرك على الصبر.
وبعد، فهذه كلها وغيرها أمور تعين على الصبر وتحمل الأذى، نعدِّدها ثانية كما يلي:
1- تعظيم قدر الله في القلب.
2- تعظيم الآخرة.
3- دراسة التاريخ.
4- زرع الأمل في نفوس المؤمنين.
5- العلم والقراءة.
6- قراءة القرآن.
7- قيام الليل.
8- الذكر.
9- ترك المعاصي والذنوب.
10- الأخوة في الله.
فتلك عشرة كاملة، ليس هناك صبر بدونها، وكل منها يحتاج إلى دراسة جادة.
[center] د. راغب السرجاني
http://www.nourislamna.com/vb/t18719.html
[/size]