•~* طالب العلم والفوائد *~•
قال ابن منظور في لسان العرب : " الفائدة ما استفدته من علم أو مال وجمعها الفوائد وهما يتفاودان العلم أي يفيد كل واحد منهما الأخر " .
إن من ثمرات قراءة الكتب تقييد الفوائد ، حتى ذكر الكثير من أهل العلم أن قراءة الكتب قد لا يتحقق منها الفائدة المرجوة إلا بتقييد هذه الفوائد .
قال عبد السلام هارون –رحمه الله - : " فإن الحكيم العربي كان يقول وقوله حق : ( العلم صيد والكتابة قيد . وإذا ضاع القيد ذهب الصيد) .
وكثيراً
ما يقرأ الإنسان شيئاً فيعجبه ، ويظن أنه قد علق بذاكرته ، فإذا هو في
الغد قد ضاع منه العلم ، وضاع معه مفتاحه ، فانتهى إلى حيرة في استعادته
واسترجاعه " .
ولكن يبقى السؤال المهم ألا وهو:
ما الفوائد التي ينبغي تقييدها عند قراءة الكتب ؟
وكيف يتم تقييد هذه الفوائد ؟
وأين تقيد هذه الفائدة ؟
وما ذا بعد تقييد هذه الفوائد ؟
ففيما يتعلق بماهية الفوائد ، فقد ذكر بعض أهل العلم ما ينبغي تقييده من الفوائد.
قال ابن جماعة – رحمه الله – فيما ينبغي لطالب العلم :
" إذا شرح محفوظات ، وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات ، انتقل
إلى بحث المبسوطات ، مع المطالعة الدائمة ، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من
الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة والفروع الغريبة ، وحل المشكلات والفروق
بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم ، ولا يستقل بفائدة يسمعها ، أو
يتهاون بقاعدة يضبطها ، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها " .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – في الفوائد التي ينبغي تقييدها:
"الفوائد التي لا تكاد تطرأ
على الذهن ، أو التي يندر ذكرها والتعرض لها ، أو التي تكون مستجدة تحتاج
إلى بيان الحكم فيها ، هذه اقتنصها ، قيدها بالكتابة لا تقول هذا أمر معلوم
عندي ، ولا حاجة أن أقيدها ، فإنك سرعان ما تنسى ، وكم من فائدة تمر
بالإنسان فيقول هذه سهلة ما تحتاج إلى قيد ، ثم بعد فترة وجيزة يتذكرها ولا
يجدها ، لذلك احرص على اقتناص الفوائد التي يندر وقوعها أو يتجدد وقوعها
وأحسن ما رأيت في مثل هذا كتاب " بدائع الفوائد
" للعلامة ابن القيم ، فيه بدائع العلوم ، ما لا تكاد تجده في كتاب آخر ،
فهو جامع في كل فن ، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيد ذلك ، ولهذا
تجد فيه من علم العقائد ، والفقه ، والحديث ، والتفسير ، والنحو ،
والبلاغة " .
وقال الشيخ بكر أبوزيد في " حلية طالب العلم " :
" ابذل الجهد في حفظ العلم (حفظ كتاب) ، لأن تقييد العلم بالكتابة أمان من
الضياع ، وقصر لمسافة البحث عند الاحتياج ، لا سيما في مسائل العلم التي
تكون في غير مظانها ، ومن أجل فوائدها أنه عند كبر السن وضعف القوى يكون
لديك مادة تستجر منها مادة تكتب فيها بلا عناء في البحث والتقصي " .
وبعد هذه النقول يمكن تلخيص كلام العلماء حول الفوائد التي يجدر بنا أن نُعنى بتقييدها فيما يلي:
1- المسائل التي تكون في غير مظانها ، فمن يطالع كتاباً مثل كتاب " الحيوان " للجاحظ
يلاحظ أنه حوى الكثير من الفوائد في الكلام عن الكتب وفضائلها مما ليس له
علاقة بموضوع الكتاب الأساس وهكذا في كثير من كتب الأعلام القدماء.
2- الفوائد التي يندر وقوعها ، أو يتجدد .
3- الضوابط العلمية والقواعد التي يبنى عليها العديد من المسائل الجزئية .
4- الطرائف والنوادر والقصص المعبرة .
5- المسائل المشكلة .
6- دقائق الاستنباطات .
7- الفروق الدقيقة والنظائر والأشباه .
8- الفائدة التي يتفرد بها عالم عن غيره ، ولم يسبق إليها ، ومثال ذلك : عند قراءة كتب التفسير ، أن يذكر ابن كثير تفسير لآية ، لا توجد عند غيره من المفسرين .
أما كيف يتم تقييد هذه الفوائد وأين ؟
فهناك كلام نفيس لبعض أهل العلم حول هذه المسألة المهمة .
قال عبد السلام هارون –رحمه الله - :
" والباحثون ، ولا سيما في أيامنا هذه ، يقيدون هذه المعارف في جذاذات ،
يرجعون إليها عند الحاجة ، ولكني سلكت طريقاً أوثق من طريق الجذاذات ، هو
دفتر الفهرس ، وهو الذي سميته " كناشة النوادر " ،أقيد فيها رءوس المسائل
مرتبة على حروف الهجاء ، مقرونة بمراجعها "
وقال الشيخ بكر أبوزيد :
" اجعل لك كناشاً أو مذكرة لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في
غير مظانها ، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك فحسن ، ثم تنقل
ما يجتمع لك بعد في مذكرة ، مرتباً له على الموضوعات ، مقيداً
رأس المسألة ، واسم الكتاب ، ورقم الصفحةوالمجلد، ثم اكتب على ما قيدته " نقل "
حتى لا يختلط بما لم ينقل ، كما تكتب : " بلغ صفحة كذا " فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه قراءة " .
وقال الشيخ عبدالعزيز بن محمد السدحان : " تقييد الفوائد التي تسمعها : على
الكتاب ، أو في دفتر خارجي ، وهذه الفوائد إذا حرص الإنسان على تقييدها ،
وعلى مراجعتها مرة بعد مرة ، فإنها بإذن الله تعالى تكون عنده ملكة في
الكلام ، وفي التحضير ، وفي إزالة الإشكال ، وقل مثل هذا في القراءة .
وقال : " فإذا قرأت كتاباً
(سواء على شيخ أو قراءة حرة ) فاحرص كل الحرص على أن تقيد ما تسمع أو تقرأ
من الفوائد ، أو ما يمر عليك من الشوارد والفرائد ، فإذا أتممت قراءة الكتب
ثم تصفحت تلك الفوائد ، ستشعر أنك جمعت كنزاً عظيماً ، خاصة إذا جعلتها
منظمة بحيث تحكم تبويبها .
فإذا قرأت كتابين أو ثلاثة ،
ثم علقت على جنباتها ما قرأت من الفوائد ، ثم لخصتها ونظمتها وجعلتها في
دفتر فيكون لديك كثير من الفوائد المنتوعة : في المعتقد ، وفي الأصول ، وفي الجرح والتعديل ، وفي النحو … وهلم جرا .
واجعل لك دفترأً شاملاً مقسماً ، بحيث يكون فيه :
قسم للفوائد الأصولية ، وقسم للفوائد النحوية ، وقسم للجرح والتعديل … وهلم جرا
فسترى أنك تستطيع أن تحضر
دروساً ومحاضرات ، وتكتب بحوثاً في كل فن على حدة خاصة أن هذه الفوائد قل
ما تكون موجودة في كتاب مجموع ، وأنت قد وجدتها في كتب متفرقة .
وأزيدك أيضاً فائدة تجعل العلم لا يتفرق من ذهنك ، ويبقى ميسراً إذا أردت تَذَكَّرهً :
فمثلاً إذا قرأت كتاباً في
الرؤى والأحلام ، ثم قرأت كتباً أخرى متنوعة ، ومن هذه الكتب استخرجت فوائد
تتعلق بالرؤى والأحلام ، فاحرص كل الحرص على أن تفرغ هذه الفوائد من جميع
هذه الكتب بأرقام الصفحات فقط ، على الغلاف الداخلي لكتاب الرؤى والأحلام ، فتقول : انظر الاعتصام (1/121)انظر إعلام الموقعين (2/…) إلخ .
ولن تعرف قيمة هذا الحصر إلا
إذا أردت أن تقرا قراءة مستقلة في هذا الموضوع ، فترى أنك جمعت متفرقات ،
وألفت بين مختلفات في موضوع واحد ، وإذا رتب الكلام في الموضوع فترى أنك
أحطت بأوله وآخره . وهذا الكلام مجرب ومقروء ومشاهد ، كذلك إذا سمعت فائدة
خارجية فاحرص على أن تضيفها للكتاب ، ومع كثرة الفوائد الخارجية يخرج لك
كتاب آخر " .
وبعد هذه النقول يمكن أن ألخص الطرق التي تقيد بها الفوائد بما يلي :
1- تسجيل الفوائد على الغلاف الداخلي للكتاب .
2- تقييد الفوائد على بطاقات ومن ثم يتم تصنيفها ، وهذه الطريقه أفضل ما تكون عندما يكون الهدف كتابة بحث أو رسالة علمية .
3- تخصيص كراساً أو كناشة لتقييد هذه الفوائد ومن ثم ترتيبها على الموضوعات .
4- تسجيل الفوائد على غلاف الكتاب ثم نقلها إلى كراسٍ مخصص لهذا الأمر ، وهذه طريقة جربتها ووجدت نفعها ولله الحمد .
5- تقييد الفوائد وحفظها في الحاسوب الذي يتولى فهرستها وترتيبها آلياً ، فتعم فائدتها ويسهل الرجوع لها .
ومن المهم هنا الإشارة إلى بعض الأخطاء التي قد يقع فيها كثير ممن يقرأ الكتب فيما يتعلق بتقييد الفوائد ، من هذه الأخطاء:
1- إهمال تقييد الفائدة بحجة أنه يعرفها قال الإمام النووي –رحمه الله – وهو يرشد الطلاب إلى تعليق الفوائد : " ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت ، بل يبادر إلى كتابتها ،ثم يواظب على مطالعة ما كتبه " .
2- عدم عزو الفائدة لأهلها فقد قيل من بركة العلم أن يعزى إلى أهله .
إذا أفادك إنسان بفائدة من العلوم فأدمن شكره أبدا، وقل فلان جزاه الله خيراً أفادنيها وألقِ الكبر والحسد.
.3-
الاشتغال بالفوائد أثناء البحث ، إذا كنت تبحث عن مسألة ما وأثناء تقليبك
للكتاب وجدتَ فائدة فلا تنشغل بها لأن الفوائد كثيرة ، وقد يضيع عليك الوقت
لانشغالك بهذه الفوائد ، وإن علَّمت على هذه الفوائد وأشرت إليها بالقلم
فهذا حسن ، حتى تنتهي من بحثك ثم تعود إلى هذه الفوائد .
4- تأخير تقييد الفائدة ، قال الإمام النووي –رحمه الله - : " ولا يؤخر تحصيل فائدة –وإن قلت – إذا تمكن منها ، وإن أمن حصولها بعد ساعة ، لأن للتأخير آفات ، ولأنه في الزمن الثاني يحصل غيرها " .
5- التقليل من شأن الفوائد التي يأتي بها القرين .
وأخيراً أهم ثمرات تقييد الفوائد ، منها :
1- حفظ العلم .
2- إيجاد مادة تستفيد منها عند الكتابة أو تحضير موضوع أو خطبة أو كلمة وغير ذلك .
3- تقييد الفوائد يسهم في رسوخ المعلومات في ذهن القارئ .
4- تقييد الفوائد يعطي ملكة عند الحديث وإفادة الآخرين .
5- يسهل الرجوع إلى الكتاب الذي سبق قراءته وتكرار الاستفادة منه .
6- الفوائد ثمرة تجارب ومشاهدات فهي كالرحيق من الزهرة وكالشهد من العسل . وهي خلاصة الخلاصة ، والعرب تقول : " يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق "