فى الوقت الذى إنتظر فيه الجميع أن يعلن الرئيس عن الجدول الزمنى للإنتخابات خرجت عن حكومته اول تغييرات ملموسة فى إتجاه إرساء قواعد الديموقراطية. فى الواقع هذه كانت الأولى و الأخيرة فى عهد حبيبى الذى لم يكن شديد الحماس لإجراء أى تغييرات حقيقية فى نظام كان بالكاد قادرا على إدراك طبيعته. الإجراءات المعلنة شملت إطلاق حرية تكوين الأحزاب و رفع الإحتكار الذى مورس طويلا لصالح الحزب الحاكم و لم يسمح إلا بوجود حزبين معارضين فقط إلى جانبه. إضافة إلى ذلك أطلقت حرية الصحافة و ألغيت قرارات الحظر عن بعض الصحف المعارضة للنظام. فى خلال أسابيع أعلن عن تأسيس أكثر من مائة حزب جديد فى إندونيسيا و على الرغم من أن الغالبية العظمى منها لم تكن له أى قاعدة شعبية تذكر إلا أن وجودها قد أحدث زخما لأول مرة منذ عقود فى حياة سياسية كان طابعها السائد هو الجمود الكامل.
عندما أذعن حبيبى فى النهاية للضغوط فأعلن عن مقترحاته للجدول الزمنى للإنتخابات كانت مرة أخرى مخيبة للآمال. فقد إقترح الرئيس أن يتم إعداد قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية فى نهاية العام و يرافقه إنعقاد طارئ للجمعية التأسيسية يعلن عن الدعوة لإنتخابات برلمانية جديدة. هذه الإنتخابات إقترح حبيبى أن تجرى فى منتصف العام التالى و يعقبها تشكيل جديد للجمعية التأسيسية يستغرق ما بين أربعة إلى ستة شهور. كان هذا يعنى ألا تقام الإنتخابات الرئاسية التى تجريها الجمعية التأسيسية قبل نهاية عام 1999 أى بعد ثمانية عشر شهرا من تاريخ إعلان الرئيس لجدوله الزمنى.
هذا الجدول الزمنى أثار إعتراضات كثيرين بما فى ذلك هؤلاء الذين وافقوا مبدئيا على خطوطه العامة. الجيش الذى كان يرغب فى مهلة لترتيب الأوراق لم يكن فى المقابل يريد لها أن تطول أكثر من اللازم بحيث تتيح لتوازنات القوى على الأرض أن تتغير فى وقت تميز بالسيولة الزائدة. كان ويرانتو يسعى بوضوح لأن يؤمن لنفسه منصب رئيس الجمهورية و من ثم إتجه إلى القوى التى إستعداها الرئيس الجديد بميله الواضح إلى الإسلام السياسى. هذه القوى كان على رأسها نهضة العلماء الحركة الممثلة للإسلام التقليدى. إستطاع معاونو ويرانتو أن يؤمنوا له تأييد قيادات الجماعة الذين دعوا لمؤتمر لها إنتهى إلى إعلان دعمهم للرجل الذى يرونه القائد المناسب أكثر من غيره لقيادة البلاد، ويرانتو.
فجأة أصبح جدول حبيبى الزمنى أقرب للسراب فالجمعية التأسيسية المقرر لها أن تنعقد فى نهاية العام لتدعو فقط إلى إنتخابات برلمانية جديدة ربما تتخطى ذلك إلى إستخدام صلاحياتها و إنتخاب رئيس جديد. و لم يعد أمام حبيبى الآن سوى الإلتجاء إلى الحزب الحاكم الذى كان لا يزال قوة هائلة على المسرح السياسى بحيازته لغالبية مقاعد البرلمان و الجمعية التأسيسية. كان مؤتمر الحزب التالى هو ساحة الصراع الذى خاضه حبيبى لتأمين جبهة داعمة له فى مواجهة منافسيه. و لكن المعركة لم تكن سهلة فالخصم كان هو الجيش الذى كان ممثلوه فى الحزب إضافة إلى أن قياداته المنتشرون فى أنحاء البلاد كان لهم تأثيرهم الذى لا يمكن مقاومته على ممثلى اللجان الحزبية الإقليمية. فى المجمل لعب حبيبى على فكرة إحراج الجيش بإظهاره و كأنه يمثل إستمرارية نظام سوهارتو. هذه الفكرة أكدها محاولة ممثلى الجيش فى المؤتمر إستخدام منصب سوهارتو كرئيس لهيئة أمناء الحزب. فى النهاية نجح حبيبى فى ضغوطه إلى حد أن ويرانتو تدخل ليأمر قيادات الجيش بتوجيه ممثلى اللجان الإقليمية إلى إنتخاب مرشح حبيبى لرئاسة الحزب فى الفترة التالية.
فى الواقع كانت الحقيقة على عكس ما بدا من خلال ظاهر المعركة فى مؤتمر الحزب الحاكم. فممثلو الجيش فى الحزب كانوا ينتمون فى جملتهم إلى العناصر التقدمية و الإصلاحية فيما كان مؤيدو حبيبى و مرشحه يمثلون الجناح المحافظ من أتباع سوهارتو المخلصين. بدا ذلك واضحا عندما شكل رئيس الحزب الجديد هيئة مكتبه من بين أخلص أعوان الديكتاتور. كان حبيبى فى الواقع حتى اللحظة حريصا على ألا يحدث الكثير من التغيير فى بنية نظام سلفه و أهم من ذلك كان مصرا على حماية سوهارتو و عائلته إلى حد عزل النائب العام الذى أعلن عن جمعه لأدلة و مستندات تدين سوهارتو و أفراد من عائلته بالفساد. بعد ساعات قليلة فقط من أعلانه هذا عزل النائب العام و أستبدل بآخر لم يكن متحمسا لتتبع مثل هذه القضايا.
نتائج مؤتمر الحزب الحاكم ربما تبدو ظاهريا كنصر لحبيبى و لكن الواقع الذى أدركه مرشحه نفسه و الذى أصبح الرئيس الجديد للحزب كان أن الجيش هو القوة الحقيقية وراء الستار و أنه إذا كانت سبل الضغط عليه قد توافرت هذه المرة فليس من المأمون الإعتماد على توافرها فى كل مرة. فى المقابل كانت معركة الجمعية التأسيسية أمرا مختلفا تماما. و سرعان ما أدرك الجيش أو ويرانتو على وجه التحديد أن مصيره السياسى ليس مهددا أقل من مصير حبيبى. كانت الجمعية التأسيسية بالرغم من التأثير الكبير للجيش داخلها و بالرغم من تمكن حبيبى من حشو مقاعدها الفارغة بأنصاره، كانت عرضة لنوع مختلف من التأثير و هو حراك الطلبة على الأرض.
شرع كل من حبيبى و ويرانتو فى العمل على إكتساب شعبية بين أوساط الطلبة. كان ما لدى حبيبى هو الكثير من الوعود بمحاسبة قتلة شهداء أحداث 12 مايو. هذه الوعود لم تجد سبيلها يوما إلى التنفيذ و لكنها فى حينها أحدثت قدرا من التعاطف مع الرئيس. فى المقابل كان ويرانتو يمتلك القدرة على تبرئة اسمه و قيادات جيشه من دماء هؤلاء الشهداء أنفسهم. لتحقيق ذلك إستخدم ويرانتو صهر سوهارتو قائد القوات الخاصة السابق ككبش فداء و الآن أمر بعقد محاكمة عسكرية إنتهت بإدانة الرجل و قواته بإطلاق النار فى يوم 12 مايو.
محاولات الرجلين لكسر عداء العناصر الأكثر رادكالية من الطلبة لم تجد كثيرا. لم يساعدهما كثيرا أنهما قد وقعا فى أخطاء دمرت كثيرا مما أنجزاه. حبيبى من جانبه إستغل أحد المناسبات القومية فأغدق على أقاربه و المحسوبين عليه ميداليات شرفية دون أساس إلا إنتسابهم إلى الرئيس. كانت تلك إشارة واضحة إلى أن الرجل ماض على طريق سلفه فى بناء وضع مميز لعائلته و المقربين منه. ويرانتو فى المقابل جرته مخاوف عدم القدرة على السيطرة على حراك الطلبة إلى الدفع بقانون يقيد حرية التظاهر. القانون الذى لم يكن ليجدى على أية حال كان إقتراحه و الجهد المبذول للضغط حتى تم تمريره فى البرلمان ضارا بصورة ويرانتو و الجيش أكثر كثيرا من توفيره أداة لشرعنة مواجهته لحراك الطلبة.
الطرف الثالث الخفي ،،، الجيش !
ترافق مع هذا الأداء المضطرب خروج بعض من جرائم الجيش و بخاصة فى الأقاليم إلى العلن بعدما كان الحديث عنها من المحظورات طوال عقود. و لم يلفت الإنتباه عن هذه القضايا القديمة إلا ظاهرة جديدة ظهرت فجأة فى شرق جاوا المكتظ بالسكان. إنتشرت فى هذه المنطقة بشكل مفاجئ سلسلة من حوادث الإختطاف و الإغتيال لفئة من السحرة و المشعوذين التقليديين. الحوادث التى نفذت بشكل إحترافى و شملت نطاقا واسعا لم تدع مجالا للشك فى أن وراءها جهة تمتلك قدرا كبيرا من الموارد و القدرة التنظيمية. و مع ربط هذه الظاهرة بوقائع قديمة أسهمت فى تمكن الجيش فى بداية عهد سوهارتو من إحكام سيطرته على الأمور بصفته البديل عن الفوضى لم يكن لدى كثيرين أى شك فى أن الجيش نفسه و لا أحد سواه هو من أدار عمليات القتل هذه لإشعال قدر من الإضطراب تثير ذعر أصحاب المصالح و المواطنين العاديين و تلجئهم إلى تقديم أمنهم على أى إعتبار آخر.
وسيلة أخرى إستخدمها الجيش للتعامل مع مسيرات و مظاهرات الطلبة كانت تجنيده لميليشيات مدنية. الهدف من تلك المليشيات كما هو معتاد للجيش فى إندونيسيا كان أن تتحمل عنه تبعة أداء المهام الملوثة أكثر لصورته كجيش نظامى. كالمعتاد أيضا ضمت المليشيات التى بلغ تعدادها فى جاكارتا حوالى 100 ألف فرد، عناصر من سلاح البلطجية الدائم العمل فى خدمة الجيش و النظام الحاكم. إلى جانب هؤلاء كان هناك خليط من العاطلين و المهمشين لكن العدد الأكبر إنتمى لجماعات إسلامية صغيرة كانت على صلة بإتشمى (رابطة الفكر الإسلامى) التى كان حبيبى رئيسا لها لفترة طويلة. كان عددا من هذه الجماعات يرى فى استمرار حبيبى كرئيس داعما لمشروع الإسلام السياسى الذى كان حبيبى قريبا منه بحكم تداخله معه لفترة.
طوال الأسابيع السابقة لإنعقاد الجمعية التأسيسية استمرت تظاهرات و مسيرات الطلبة بصفة يومية و فى مواجهتها جابت جماعات من المليشيا المدنية شوارع جاكارتا تتعقب تجمعات الطلبة و تدخل فى مواجهات دموية معها. فى حال المواجهة بين مسيرات الطلبة و قوات الأمن كانت الميليشيات تأخذ مكانها فى الصفوف الأولى لقوات الأمن لتكون المبادرة بمهاجمة المسيرة أو صدها. تصاعدت وتيرة التظاهرات مع بدأ الجمعية لأعمالها و إزدادت عنفا مع إتضاح السيطرة شبه الكاملة لحبيبى و الجيش على مجريات الأمور بها. كان مصدر الإزعاج الوحيد فى الجمعية هو طرف غير متوقع و هو الأقلية المنتمية لحزب التنمية المتحد، الحزب الذى مثل طوال عقود المعارضة الإسلامية المتواطئة مع نظام سوهارتو فى مسرح السياسة. بخلاف زعماء الإصلاح البارزين كميجاواتى و وحيد و حتى أمين رئيس كان للحزب القديم مصلحة فى أداء دور أكثر بروزا فى دفع إجراءات إصلاحية من خلال الجمعية التأسيسية. فى النهاية تم تفريغ مقترحات ممثلى الحزب من مضمونها و ما تم تمريره كان إجمالا فى حدود ما سمح به الجيش و حبيبى. شمل ذلك تكليف الحكومة بالتحقيق فى تهم الفساد الموجهة لسوهارتو و عائلته و لكنه لم يشمل مثلا التخلص من دور المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية. هذا الإقتراح على وجه الخصوص تم إختزاله إلى توصية موجهة للبرلمان لمراجعة حجم تمثيل الجيش فى الجمعية التأسيسية.
فى اليوم الأخير لأعمال الجمعية التأسيسية كان الشعور العام فى أروقتها أن الجيش و حبيبى قد نجحا فى توجيه أعمالها لتصب فى الإتجاه الذى إختاراه. كان التصويت على تحجيم تدخل الجيش فى العمل السياسى و الذى إنتهى إلى لا شيئ تقريبا ذروة النصر للجبهة الداعمة للجيش فى الجمعية إلى حد أن ويرانتو تجول بعد التصويت مباشرة بين مقاعد الأعضاء ليتلقى تهانيهم! فى الشوارع كان الأمور تمضى على عكس هذه الأجواء الإحتفالية فقد إندلع إشتباك دموى بين قوات الأمن و بين مسيرة ضخمة للطلبة كانت تحاول شق طريقها نحو مقر إنعقاد الجمعية. الإشتباك تجدد فيه إستخدام الرصاص الحى من قبل قناصة و إستخدام القوات فى المواجهة للرصاص المطاطى من مدى قريب مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا.
الإشتباكات و ضحاياها كانا مصدر إلهاء عن الجمعية و آثارها فى الأيام التالية و لكنهما كانا بالطبع مصدر حرج و إزعاج للجيش. فى المقابل كان إندلاع أحداث عنف طائفى بين الغالبية المسلمة و الأقلية المسيحية فى جاكارتا بشكل مفاجئ و لأسباب واهية ، مصدر إلهاء عن الإشتباكات و ضحاياها. مرة أخرى يبدو إندلاع مثل هذه الأحداث صدفة أكثر من ملائمة لحاجة الجيش إلى تحويل إنتباه الرأى العام عن إحدى جرائمه! و مرة أخرى يتحول مجال المواجهة بين القوى المناضلة من أجل ديموقراطية حقيقية من جانب و بين السلطة و تركيبتها التقليدية من جانب آخر إلى مواجهات داخل الكتلة الشعبية ذاتها. فى مثل هذه المواجهات طائفية أو فئوية إلخ يكون الشعور الطاغى بين الناس هو الخشية من الأسوأ و إنعدام الثقة فى الآخر و من ثم التعلق بالسلطة كمصدر طبيعى لإقرار الأمن و الحماية من الآخر. فى مقابل الحاجة الماسة إلى السلطة القوية القادرة على توفير الحماية و الأمن يصبح من غير المنطقى الدخول فى مواجهة مع هذه السلطة ذاتها. مثل هذه المواجهة لا بديل عن أن يكون أحد أهدافها المرحلية على الأقل هو إضعاف السلطة لإرغامها على قبول مطالب الإصلاح. بالنسبة للشخص العادى فى كل مكان يأتى أمنه على حياته مقدما على مطالبه بأى إصلاح يتوقع من ورائه تحسين ظروف هذه الحياة. لذلك فالخيار سهل و من ثم أن تضع السلطة شعبها أمام هذا الخيار هو دائما سلاحها الأكثر فعالية.
النخبة تأكل و العامة يضرسون
فى الشهور التالية لتنحى سوهارتو كان المشهد السياسى لإندونيسيا يتنازعه التجاذب بين أوجه إستمرارية نظام سوهارتو بدون رأسه و بين آثار غياب الرأس و ما تتيحه السيولة السياسية من فرص تثير فى نفس كل ذى نفوذ الرغبة فى إقتناص أكبر جزء ممكن من كعكة السلطة. لم يكن من الصعب تجنب الصورة و الوقائع المؤكدة لإستمرارية النظام نفسه فى الحكم مستخدما ليس فقط الأساليب و لكن الأشخاص أنفسهم أيضا. الرئيس كان هو الربيب السياسى لسوهارتو و آخر نائب له. البرلمان كان هو ذاته الذى إنتقى سوهارتو أعضائه سواء فى الأغلبية الحاكمة أو حتى المعارضة الصورية. الجيش كان هو ذاته المؤسسة التى أحكمت قبضتها الحديدية على مسار العمل السياسى لصالح سوهارتو ظاهريا و لكنها الآن كانت تفعل الشيئ نفسه لصالح استمرار نفوذها الطاغى. قوى المعارضة كانت كالعهد بها منقسمة و متشرذمة بل ربما أكثر تشرذما من أى وقت مضى مع حوالى 140 حزب يسعى لإكتساب الإعتراف الرسمى ليتمكن من خوض الإنتخابات البرلمانية فى يونيو 1999.
فى المقابل كانت سلوكيات هذه الأطراف التى لم يكن أى منها جديدا على الساحة هى ما يمكن أن يثير بعض الدهشة. قوى الحزب الحاكم القديم و الجيش و الرئيس كانوا أحيانا أكثر ميلا لإبهار غيرهم بإتخاذ مواقف تبدو أكثر إصلاحية أو أكثر حرصا على الديموقراطية. اللجنة التى أخرجت مشروعا لتعديل قوانين الإنتخابات فى نهاية 1998 كانت تحت إشراف وزير داخلية كان هو نفسه المشرف على عملية إخلاء مقر الحزب الديموقراطى من مؤيدى ميجاواتى المعتصمين فيه فى عام 1996. مع ذلك كان المشروع المعد من قبل هذه اللجنة و بدعم كبير من وزير الداخلية تقدميا ربما أكثر حتى مما كان زعماء المعارضة الرئيسيين يأملون. فى الواقع كانت توجهات هؤلاء أقرب إلى ميول الأكثر تشددا من أعضاء الحزب الحاكم فى البرلمان و نجحوا فى النهاية فى إدخال تعديلات محدودة على القوانين لصالح سيطرة أكبر لقادة الأحزاب على العملية الإنتخابية.
لكن فى أعين المواطن الإندونيسى نفسه كانت الصفة الأكثر بروزا لما بعد سوهارتو هى الفوضى! الآن و قد أصبح لكل فصيل على الساحة مصالحه التى تتلاقى حينا و تتناقض أحيانا مع غيره كانت مؤامرات الجميع ضد الجميع تستخدم الشارع لتبادل الضربات تحت الحزام أو لتحويل الأنظار عن هذه الفضيحة أو تلك التى فجرها الخصوم. النزاعات الطائفية بل و حوادث التفجير الإرهابية لم تعد أمر نادر الوقوع فى عاصمة كانت لفترة طويلة تنعم بقدر كبير من الدعة و الهدوء. فى يناير نشرت تفاصيل مكالمة هاتفية بين الرئيس و المدعى العام كشفت ماكان حتى الحين مجرد شكوك شبه مؤكدة. قبل كل شيئ كان من الواضح أن حبيبى يستخدم الإدعاء العام كأداة لتحقيق مآرب سياسية كسلفه. ثانيا إتضح أن العمل على التحقيق فى إتهامات الفساد لسوهارتو لم يكن جادا و أن الرئيس كان يامل أنه مع مرور الوقت سيتضاءل إصرار الرأى العام على دفع هذه القضية فيمكن قتلها بهدوء. أخيرا و ليس آخرا كان المؤكد أن الجيش و ويرانتو على رأسه كان الطرف الأكثر إصرارا على ألا يحاكم الرئيس.
الحقيقة الأخيرة لم تكن غائبة عن بال أحد. ربما كان حبيبى فى الواقع لأنه فى موقع اليائس الأكثر إستعدادا لتحدى الجيش فى أمر سوهارتو. فى المقابل كان زعماء المعارضة مثل ميجاواتى و عبد الرحمن وحيد أكثر وضوحا فى تأييدهم لإتباع سبيل متسامح مع الرئيس المتنحى. وحيد كان فى الواقع يتردد بشكل منتظم على مقر إقامة سوهارتو لزيارته أما ميجاواتى فأعلنت دائما أنها لا ترغب فى أن تعامل سوهارتو بالطريقة المذلة ذاتها التى عامل بها والدها سوكارنو. كانت ميجاواتى ترى أنها الأقرب إلى الفوز بمنصب الرئيس فى أى إنتخابات قادمة. فى الظاهر كانت شعبيتها طاغية و كانت مؤتمراتها الجماهيرية فى الأقاليم تجتذب مئات الآلاف من الأنصار المتحمسين. و لكن هذه الشعبية لم تكن كافية أبدا إذا ووجهت برفض الجيش و أهم من ذلك فإن النجاح فى إدارة إندونيسيا كان مستحيلا دون علاقة ودية مع المؤسسة التى كانت ظل البيروقراطية المدنية. كان إلى جوار كل مسؤول مدنى فى الدولة مسؤول عسكرى يراقب أعماله. أهم من ذلك كان للجيش وجود فى الأقاليم لا يترك قرية بدون أن يكون له فيها من يمثله. فى الواقع أمام هذا الحضور الطاغى فى مفاصل الدولة لم يكن تخلى الجيش عن نصف تمثيله البرلمانى أكثر من خطوة رمزية بلا قيمة و إن كان ويرانتو قد حرص على إبرازها بوصفها دليلا على رغية الجيش فى دفع التطور الديموقراطى للبلاد.
شعبية ميجاواتى لم تمر دون محاولات حثيثة من خصومها من مختلف الأطياف لتقليصها و الإنتقاص منها. كان أسهل الأدوات المتاحة هو الإشارة إلى أن ميجاواتى لم تكن ملتزمة دينيا كما ينبغى و أن لها ميول واضحة نحو الأقليات الدينية غير المسلمة. فى الواقع كانت ميجاواتى تنتهج سياسة شبيهة بسياسة والدها فى التقارب مع الأقليات الدينية من منطلق كون فلسفة حكمه قومية فى الأساس تغلب الرابطة الوطنية عن غيرها. هذه السياسة كانت تثير قلق الإسلاميين بإختلاف أطيافهم أو على الأقل تجعلهم يدركون أن فرصهم للفوز بإمتيازات جديدة هى أقل ما تكون إن لم تنعدم إن كانت ميجاواتى هى الرئيس المقبل. أستخدم خصوم ميجاواتى كل واقعة يمكن تصويرها كتفضيل لغير المسلمين أو تهاون فى الإلتزام الصارم بالدين كفرصة لإثارة الكثير من الضجة الإعلامية. و لم يكن هذا دون أثر. فعلى أقل تقدير تأثر بذلك التحالف الذى بدا قويا فى البداية بينها و بين عبدالرحمن وحيد. بمرور الوقت كان وحيد يجد صعوبة فى تأكيد هذا التحالف تحت ضغط أعضاء حزبه الإسلامى التقليدى و من خلفه جماعة نهضة العلماء.
على خلاف ما توقعه المراقبون نظرا لحال الفوضى السائدة فى البلاد مرت الإنتخابات البرلمانية بهدوء تام! الإقبال الجماهيرى على التصويت كان ضخما و إلتزام الناخبين بالهدوء التام و هم يصطفون فى طوابير طويلة إنتظارا لدورهم للتصويت أخرج صورة ناقضت التوقعات و ناقضت أيضا فوضى صراع النخبة السياسية. أثبت الشعب أنه بالتأكيد أكثر حضارية من نخبته و حكامه و كشف بوضوح أن الفوضى السائدة كانت بلا شك مصطنعة و مدبرة. نتائج الإنتخابات نفسها عكست إلى حد كبير ماكان يمكن توقعه. فاز حزب ميجاواتى بأكثرية بنسبة 34% و تلاه الحزب الحاكم سابقا بنسبة 22%. حصلت الأحزاب الإسلامية المنقسمة على نفسها على نسب 12% لحزب عبدالرحمن وحيد و 11% لحزب التنمية الممثل الوحيد سابقا للإسلاميين بالبرلمان ثم 7% فقط لحزب أمين رئيس.
تمكن حزب سوهارتو من تحقيق نتائج جيدة فى الإنتخابات كان سببه تغلغل الحزب و قياداته التقليدية فى أنحاء البلاد المترامية الأطراف و خاصة فى الجزر الخارجية و الأقاليم. توزيع الدوائر الإنتخابية الذى أشرف عليه البرلمان القائم حرص على تعظيم هذه الميزة بمنح الأقاليم عددا أكبر من المقاعد لا يتناسب مع توزيع السكان. إنعكس ذلك فى أن نسبة الأصوات التى جمعها حزب ميجاواتى مثلا ترجم إلى نسبة أقل من المقاعد فى حين حصل الحزب الحاكم على نسبة مقاعد أعلى من نسبة الأصوات.
المحصلة كانت أن قوى النظام القديم لم يكن بالإمكان تجاهلها فى أى ترتيبات قادمة للسلطة. ليس الجيش فقط و إنما حتى عناصر حزب سوهارتو نفسه. نتيجة لذلك وجدت ميجاواتى نفسها مضطرة إلى إجراء تفاهمات مع رئيس الحزب الذى كان مع الوقت تتباعد مواقفه عن مواقف حبيبى. كان واضحا أن الرهان على حبيبى الآن هو خاسر لا محالة خاصة مع إضافة المزيد من فضائح الفساد المالى لإدارته فى كل يوم. و كان رئيس الحزب يبحث الآن عن حليف يمكن التعويل على مستقبله السياسى.
لم يكن حبيبى يفقد فقط قاعدة تأييده فى داخل حزبه و لكنه كان فى الوقت ذاته يفقد تأييد الجيش. فى سعيه لإيجاد أى عون لضمان مستقبله السياسى إتجه نظر الرئيس نحو الخارج. كانت فكرته هى أن الدعم الخارجى هو الضامن الرئيسى لحصول إندونيسيا على المساعدات المطلوبة للخروج من أزمتها الإقتصادية الخانقة التى تقاقمت منذ تنحى سوهارتو. فى سبيل تأمين هذا الدعم الخارجى فاجأ حبيبى العالم بإعلان إستعداده لإجراء إستفتاء شعبى فى تيمور الشرقية على حق تقرير المصير لشعبها. الإقليم الصغير الذى استولت إندونيسيا عليه بعدما غادره الإستعمار البرتغالى كان قد شهد حربا إنفصالية ضروس. إضافة إلى أن الجيش كان يشعر بأنه قد قدم من التضحيات فى سبيل إبقاء تيمور الشرقية تحت حكم إندونيسيا ما يكفى لجعل فصل الإقليم إهانة مباشرة له، كان هناك أيضا لقادته مصالح إقتصادية كبيرة فى الإقليم على فقر إقتصاده. كان الجيش يسيطر على غالبية إقتصاد تيمور الشرقية و بشكل خاص على حاصلاتها من البن التى أدار الجيش زراعته بالشراكة مع أحد أبناء سوهارتو.
الإستفتاء على الإستقلال فى تيمور الشرقية كانت له نتائج كارثية بالنسبة لحبيبى و للجيش معا فى الخارج و الداخل بدرجات متفاوتة. شكل ويرانتو قيادة إقليمية جديدة لتنفيذ برنامج لم يتضح لأحد حتى اليوم الأهداف الحقيقية من ورائه. إعتمد هذا البرنامج على توسعة الميليشيات المدنية التى يديرها الجيش فى الإقليم ثم إطلاقها لإحداث أكبر قدر ممكن من الفوضى فيه. إستهدفت الميليشيات القادة اٌقليميين الداعين للإستقلال و عائلاتهم ثم إستهدفت أيضا موظفى بعثة الأمم المتحدة المشرفة على الإستفتاء. و فى النهاية كانت مهمة الميليشيات و قوات الجيش هى تطبيق سياسة الأرض المحروقة و إحداث أكبر قدر من الدمار بعدما أصبح من المؤكد أن السكان سيختارون الإنفصال عن إندونيسيا. كان سلوك الجيش فى تيمور الشرقية فضيحة بكل المقاييس و إستجلب إستهجانا دوليا كبيرا و من ثم دمر بشكل تام الهدف الأصلى الذى من أجله أحيا حبيبى هذه القضية.
فى هذه الأثناء و بينما كانت سمعة الجيش تكاد تبلغ الحضيض بسبب جرائمه فى تيمور الشرقية و جرائم أخرى أقل حجما فى أقاليم أخرى. دفع ويرانتو بكل قوته من أجل تمرير قانون يعلن حالة الأحكام العرفية فى البلاد و يطلق يد الجيش عمليا فى التنكيل بأى معارضة! كان برلمان سوهارتو مازال قائما. إضافة إلى ذلك لم يكن أى من السياسيين المتطلعين إلى إنتخابات الرئاسة فى الجمعية التأسيسية بعد أيام مستعدا للدخول فى مواجهة مع الجيش. وحدهم الطلبة نظموا مظاهرات حاشدة رافضة للقانون قبل و بعد تمريره إنتهى آخرها نهاية دموية بعدما أطلقت قوات الأمن الرصاص الحى فى مواجهتها.
مع إنعقاد الجمعية التأسيسية لإختيار رئيس جديد كانت حسابات توزيع الأصوات بين المتنافسين شديدة التعقيد و أغلبها معلق فى الفراغ. لم يكن ثمة أى ضمانات لأن يذعن الأعضاء الممثلون لكل حزب لإملاءات قياداته. فى الواقع كانت هذه القيادات منقسمة فيما بينها. الحزب الحاكم لم يكن كله مؤيدا لمرشحه المعلن و هو حبيبى. كان ثمة شائعات قوية عن إنجياز عدد كبير من أعضائه خلف رئيس الحزب مع ميجاواتى مقابل وعود بمناصب مختلفة. الإسلاميون كانوا منقسمين بدورهم بين الأحزاب المختلفة و داخل كل حزب أيضا. عبدالرحمن وحيد كان قد حسم أمره أخيرا فأعلن أنه لا يؤيد ميجاواتى و لكن لم يكن مؤكدا أن أعضاء حزبه سيحذون حذوه فيحجبون عنها أصواتهم. أمين رئيس فاجأ الجميع بترشيح عبدالرحمن وحيد خصمه اللدود للمنصب. بقية القوى الإسلامية كان منها من لا يزال على تأييده لحبيبى أما البعض الآخر فلم يكن معروفا توجهاتهم.
أضاف إلى التعقيد أن 200 عضو كان لابد من تعيينهم من خلال عمليات إنتخاب معقدة فى المجالس المحلية و فى عدد من الجمعيات الأهلية. إنتخابات المجالس المحلية لممثليها كانت رائحة الرشاوى المالية تفوح منها بوضوح و تمخضت عن تمثيل الحزب الحاكم بأكثر كثيرا مما يمكن توقعه بناءا على تمثيله فى هذه المجالس. استخدام الرشاوى الإنتخابية لم يقتصر على الإنتخابات التمهيدية لأعضاء الجمعية التأسيسية المعينين بل إنتقل إلى الجمعية ذاتها التى قطع أعمالها إجازة لمدة 10 أيام قبل التصويت على إنتخاب أصحاب المناصب الرئيسية فى الدولة، كانت أكثر من كافية لعقد شتى أنواع الصفقات مع الأعضاء. فاقم من ضبابية الموقف أن الجمعية قررت أن يكون التصويت سريا. و هكذا كان أول إنتخاب لرئيس بعد إسقاط سوهارتو محاطا بكل أنواع الشك فى نزاهته بينما كانت الشفافية منعدمة دون شك.
كواليس الجمعية التأسيسية كانت نموذجا للألعاب السياسية. ترك كل السياسيين على أبواب مقر البرلمان حيث تعقد الجمعية إجتمعاتها كل حللهم الأيديولوجية المزخرفة. تركوا عداواتهم المعلنة و المبنية على تناقض مواقفهم السياسية. تناسوا بكل سهولة كل وعودهم أو تهديداتهم التى أعلنوها على منصات الخطابة فى طول البلاد و عرضها. فى الغرف المغلقة دخل كل زعيم سياسى إلى الموائد الخضراء عاريا من كل شيئ إلا من أوراق اللعب و طموحاته التى ينوى تحقيقها بأن يستخدم أوراق لعبه بأفضل شكل ممكن. فى غياب كتل تصويتية متماسكة و مضمونة كان لكل تجمع صغير من الأصوات قيمته. 40 من الأصوات قد تحول نتيجة التصويت المتقارب من جانب إلى نقيضه. و لذا كان بناء تحالف لضمان نتيجة التصويت أمرا عسيرا و مجهدا و يتطلب عشرات الإجتماعات التى يتبادل فيها السياسيون توزيع الخدمات المستقبلية. و حيث أن لكل كتلة صغيرة وزنها فلكل متحكم فى أى عدد من الأصوات أن يقايضها بما يرضيه.
كان على الجمعية أولا أن تصوت على قبول أو رفض بيان الرئيس حبيبى عن فترة رئاسته القصيرة. فى عهد سوهارتو كان هذا التصويت مجرد أحد الطقوس الشكلية. فى هذه المرة كان المر مختلفا. لم يكن حبيبى قادرا حتى على الثقة فى أن ممثلى حزبه سيمنحونه أصواتهم. أهمية هذا التصويت كانت بسيطة و واضحة. إن رفضت غالبية الجمعية بيان الرئيس فهى بالضرورة لن تصوت لاحقا لإنتخابه لفترة جديدة. كان هذا تصويتا مبكرا على آمال حبيبى فى الإستمرار فى منصبه. حاول الرجل قدر المستطاع الضغط لضمان تصويت أعضاء حزبه لصالحه و تلقى وعدا بذلك. حاول أيضا ضمان أصوات ممثلى الجيش فعرض على ويرانتو منصب نائب الرئيس. و لكن الأخير رغم تطلعه إلى المنصب كان يرغب فى تلقى العرض من مرشح آخر غير حبيبى. بشكل خاص كان ويرانتو يتوقع أن يأتى العرض من ميجاواتى التى بذلت جهدا ملحوظا فى مغازلة الجيش طوال شهور و عبر كل سلسلة فضائحه فى تيمور و غيرها. رفض ويرانتو عرض حبيبى علنا و لكنه إستخدم أكثر العبارات ضبابية. فهو لا يريد أن يتدخل الجيش مباشرة فى الحياة السياسية و لكن إذا أرتئى أن توليه للمنصب ضرورى لمستقبل إندونيسيا فسوف يقبله. بإختصار لا أريد أن أرتبط بحبيبى و لكنى مستعد لسماع عروض أفضل.
كان التصويت مع و ضد بيان حبيبى متقاربا و لغير صالحه. تحطمت آمال الرئيس فى الفوز بمدة رئاسة ثانية و أصبح على الحزب الحاكم السعى لإيجاد مرشح بديل. المؤكد أن ما حدد نتيجة التصويت كان هو أصوات أعضاء الحزب الحاكم نفسه من أتباع رئيسه الحالى. و رغم نقمة حبيبى على الرجل إلا أن تحكمه فى هذا العدد من الأصوات الكافى لأرجحة التصويت من جانب إلى آخر أجبره على أن يقبل الإجتماع به لبحث مناورات التصويت القادم. الهدف كان تجنب فوز ميجاواتى و محاولة الدفع بمرشح للحزب. عرضت العديد من الأسماء كان من بينها ويرانتو و رفض الجميع. فى النهاية عرض الأمر على رئيس الحزب الرجل الذى طعن رئيسه فى ظهره منذ ساعات و رضى فى البداية ثم تراجع قبل بدء التصويت بساعة واحدة.
كان أمين رئيس قد نجح فى حيازة منصب رئيس الجمعية التأسيسية سابقا من خلال جولة ناجحة بين موائد التفاوض. و الآن فى مستهل جلسة إنتخاب رئيس جديد لإندونيسيا تلا على الأعضاء قائمة أسماء المرشحين. كان ثمة ثلاثة أسماء، ميجاواتى و وحيد و مرشح ثالث دفعت به الأحزاب الإسلامية المعادية لميجاواتى. كان هؤلاء يساورهم الشك فى أن ترشح وحيد لم يكن إلا خدعة. الرجل الذى صرح طوال شهور بانه لا يسعى للمنصب و أنه غير مؤهل له نظرا لكبر سنه و تدهور صحته و ضعف بصره الحاد. و الرجل الذى كان صديقا مقربا لسنوات من ميجاواتى. ربما كان ترشحه فقط سبيلا لإخلاء الساحة بحيث يتنازل عن الترشح فى اللحظة الأخيرة و يقدم المنصب لحليفته القديمة على طبق من ذهب. المرشح الثالث كان ضمانة ضد خطوة كهذه. و مع ذلك سعى أحد قادة هذه الكتلة إلى التثبت من وحيد. و فى خضم التوتر المخيم فى الدقائق الأخيرة قبل التصويت مال الرجل على أذن وحيد يسأله: “هل أنت ماض فى هذا إلى النهاية؟” و أتت إجابة وحيد قاطعة: “بسم الله! بالتأكيد”. و سحبت الأحزاب الإسلامية مرشحها!
عندما أذعن حبيبى فى النهاية للضغوط فأعلن عن مقترحاته للجدول الزمنى للإنتخابات كانت مرة أخرى مخيبة للآمال. فقد إقترح الرئيس أن يتم إعداد قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية فى نهاية العام و يرافقه إنعقاد طارئ للجمعية التأسيسية يعلن عن الدعوة لإنتخابات برلمانية جديدة. هذه الإنتخابات إقترح حبيبى أن تجرى فى منتصف العام التالى و يعقبها تشكيل جديد للجمعية التأسيسية يستغرق ما بين أربعة إلى ستة شهور. كان هذا يعنى ألا تقام الإنتخابات الرئاسية التى تجريها الجمعية التأسيسية قبل نهاية عام 1999 أى بعد ثمانية عشر شهرا من تاريخ إعلان الرئيس لجدوله الزمنى.
هذا الجدول الزمنى أثار إعتراضات كثيرين بما فى ذلك هؤلاء الذين وافقوا مبدئيا على خطوطه العامة. الجيش الذى كان يرغب فى مهلة لترتيب الأوراق لم يكن فى المقابل يريد لها أن تطول أكثر من اللازم بحيث تتيح لتوازنات القوى على الأرض أن تتغير فى وقت تميز بالسيولة الزائدة. كان ويرانتو يسعى بوضوح لأن يؤمن لنفسه منصب رئيس الجمهورية و من ثم إتجه إلى القوى التى إستعداها الرئيس الجديد بميله الواضح إلى الإسلام السياسى. هذه القوى كان على رأسها نهضة العلماء الحركة الممثلة للإسلام التقليدى. إستطاع معاونو ويرانتو أن يؤمنوا له تأييد قيادات الجماعة الذين دعوا لمؤتمر لها إنتهى إلى إعلان دعمهم للرجل الذى يرونه القائد المناسب أكثر من غيره لقيادة البلاد، ويرانتو.
فجأة أصبح جدول حبيبى الزمنى أقرب للسراب فالجمعية التأسيسية المقرر لها أن تنعقد فى نهاية العام لتدعو فقط إلى إنتخابات برلمانية جديدة ربما تتخطى ذلك إلى إستخدام صلاحياتها و إنتخاب رئيس جديد. و لم يعد أمام حبيبى الآن سوى الإلتجاء إلى الحزب الحاكم الذى كان لا يزال قوة هائلة على المسرح السياسى بحيازته لغالبية مقاعد البرلمان و الجمعية التأسيسية. كان مؤتمر الحزب التالى هو ساحة الصراع الذى خاضه حبيبى لتأمين جبهة داعمة له فى مواجهة منافسيه. و لكن المعركة لم تكن سهلة فالخصم كان هو الجيش الذى كان ممثلوه فى الحزب إضافة إلى أن قياداته المنتشرون فى أنحاء البلاد كان لهم تأثيرهم الذى لا يمكن مقاومته على ممثلى اللجان الحزبية الإقليمية. فى المجمل لعب حبيبى على فكرة إحراج الجيش بإظهاره و كأنه يمثل إستمرارية نظام سوهارتو. هذه الفكرة أكدها محاولة ممثلى الجيش فى المؤتمر إستخدام منصب سوهارتو كرئيس لهيئة أمناء الحزب. فى النهاية نجح حبيبى فى ضغوطه إلى حد أن ويرانتو تدخل ليأمر قيادات الجيش بتوجيه ممثلى اللجان الإقليمية إلى إنتخاب مرشح حبيبى لرئاسة الحزب فى الفترة التالية.
فى الواقع كانت الحقيقة على عكس ما بدا من خلال ظاهر المعركة فى مؤتمر الحزب الحاكم. فممثلو الجيش فى الحزب كانوا ينتمون فى جملتهم إلى العناصر التقدمية و الإصلاحية فيما كان مؤيدو حبيبى و مرشحه يمثلون الجناح المحافظ من أتباع سوهارتو المخلصين. بدا ذلك واضحا عندما شكل رئيس الحزب الجديد هيئة مكتبه من بين أخلص أعوان الديكتاتور. كان حبيبى فى الواقع حتى اللحظة حريصا على ألا يحدث الكثير من التغيير فى بنية نظام سلفه و أهم من ذلك كان مصرا على حماية سوهارتو و عائلته إلى حد عزل النائب العام الذى أعلن عن جمعه لأدلة و مستندات تدين سوهارتو و أفراد من عائلته بالفساد. بعد ساعات قليلة فقط من أعلانه هذا عزل النائب العام و أستبدل بآخر لم يكن متحمسا لتتبع مثل هذه القضايا.
نتائج مؤتمر الحزب الحاكم ربما تبدو ظاهريا كنصر لحبيبى و لكن الواقع الذى أدركه مرشحه نفسه و الذى أصبح الرئيس الجديد للحزب كان أن الجيش هو القوة الحقيقية وراء الستار و أنه إذا كانت سبل الضغط عليه قد توافرت هذه المرة فليس من المأمون الإعتماد على توافرها فى كل مرة. فى المقابل كانت معركة الجمعية التأسيسية أمرا مختلفا تماما. و سرعان ما أدرك الجيش أو ويرانتو على وجه التحديد أن مصيره السياسى ليس مهددا أقل من مصير حبيبى. كانت الجمعية التأسيسية بالرغم من التأثير الكبير للجيش داخلها و بالرغم من تمكن حبيبى من حشو مقاعدها الفارغة بأنصاره، كانت عرضة لنوع مختلف من التأثير و هو حراك الطلبة على الأرض.
شرع كل من حبيبى و ويرانتو فى العمل على إكتساب شعبية بين أوساط الطلبة. كان ما لدى حبيبى هو الكثير من الوعود بمحاسبة قتلة شهداء أحداث 12 مايو. هذه الوعود لم تجد سبيلها يوما إلى التنفيذ و لكنها فى حينها أحدثت قدرا من التعاطف مع الرئيس. فى المقابل كان ويرانتو يمتلك القدرة على تبرئة اسمه و قيادات جيشه من دماء هؤلاء الشهداء أنفسهم. لتحقيق ذلك إستخدم ويرانتو صهر سوهارتو قائد القوات الخاصة السابق ككبش فداء و الآن أمر بعقد محاكمة عسكرية إنتهت بإدانة الرجل و قواته بإطلاق النار فى يوم 12 مايو.
محاولات الرجلين لكسر عداء العناصر الأكثر رادكالية من الطلبة لم تجد كثيرا. لم يساعدهما كثيرا أنهما قد وقعا فى أخطاء دمرت كثيرا مما أنجزاه. حبيبى من جانبه إستغل أحد المناسبات القومية فأغدق على أقاربه و المحسوبين عليه ميداليات شرفية دون أساس إلا إنتسابهم إلى الرئيس. كانت تلك إشارة واضحة إلى أن الرجل ماض على طريق سلفه فى بناء وضع مميز لعائلته و المقربين منه. ويرانتو فى المقابل جرته مخاوف عدم القدرة على السيطرة على حراك الطلبة إلى الدفع بقانون يقيد حرية التظاهر. القانون الذى لم يكن ليجدى على أية حال كان إقتراحه و الجهد المبذول للضغط حتى تم تمريره فى البرلمان ضارا بصورة ويرانتو و الجيش أكثر كثيرا من توفيره أداة لشرعنة مواجهته لحراك الطلبة.
الطرف الثالث الخفي ،،، الجيش !
ترافق مع هذا الأداء المضطرب خروج بعض من جرائم الجيش و بخاصة فى الأقاليم إلى العلن بعدما كان الحديث عنها من المحظورات طوال عقود. و لم يلفت الإنتباه عن هذه القضايا القديمة إلا ظاهرة جديدة ظهرت فجأة فى شرق جاوا المكتظ بالسكان. إنتشرت فى هذه المنطقة بشكل مفاجئ سلسلة من حوادث الإختطاف و الإغتيال لفئة من السحرة و المشعوذين التقليديين. الحوادث التى نفذت بشكل إحترافى و شملت نطاقا واسعا لم تدع مجالا للشك فى أن وراءها جهة تمتلك قدرا كبيرا من الموارد و القدرة التنظيمية. و مع ربط هذه الظاهرة بوقائع قديمة أسهمت فى تمكن الجيش فى بداية عهد سوهارتو من إحكام سيطرته على الأمور بصفته البديل عن الفوضى لم يكن لدى كثيرين أى شك فى أن الجيش نفسه و لا أحد سواه هو من أدار عمليات القتل هذه لإشعال قدر من الإضطراب تثير ذعر أصحاب المصالح و المواطنين العاديين و تلجئهم إلى تقديم أمنهم على أى إعتبار آخر.
وسيلة أخرى إستخدمها الجيش للتعامل مع مسيرات و مظاهرات الطلبة كانت تجنيده لميليشيات مدنية. الهدف من تلك المليشيات كما هو معتاد للجيش فى إندونيسيا كان أن تتحمل عنه تبعة أداء المهام الملوثة أكثر لصورته كجيش نظامى. كالمعتاد أيضا ضمت المليشيات التى بلغ تعدادها فى جاكارتا حوالى 100 ألف فرد، عناصر من سلاح البلطجية الدائم العمل فى خدمة الجيش و النظام الحاكم. إلى جانب هؤلاء كان هناك خليط من العاطلين و المهمشين لكن العدد الأكبر إنتمى لجماعات إسلامية صغيرة كانت على صلة بإتشمى (رابطة الفكر الإسلامى) التى كان حبيبى رئيسا لها لفترة طويلة. كان عددا من هذه الجماعات يرى فى استمرار حبيبى كرئيس داعما لمشروع الإسلام السياسى الذى كان حبيبى قريبا منه بحكم تداخله معه لفترة.
طوال الأسابيع السابقة لإنعقاد الجمعية التأسيسية استمرت تظاهرات و مسيرات الطلبة بصفة يومية و فى مواجهتها جابت جماعات من المليشيا المدنية شوارع جاكارتا تتعقب تجمعات الطلبة و تدخل فى مواجهات دموية معها. فى حال المواجهة بين مسيرات الطلبة و قوات الأمن كانت الميليشيات تأخذ مكانها فى الصفوف الأولى لقوات الأمن لتكون المبادرة بمهاجمة المسيرة أو صدها. تصاعدت وتيرة التظاهرات مع بدأ الجمعية لأعمالها و إزدادت عنفا مع إتضاح السيطرة شبه الكاملة لحبيبى و الجيش على مجريات الأمور بها. كان مصدر الإزعاج الوحيد فى الجمعية هو طرف غير متوقع و هو الأقلية المنتمية لحزب التنمية المتحد، الحزب الذى مثل طوال عقود المعارضة الإسلامية المتواطئة مع نظام سوهارتو فى مسرح السياسة. بخلاف زعماء الإصلاح البارزين كميجاواتى و وحيد و حتى أمين رئيس كان للحزب القديم مصلحة فى أداء دور أكثر بروزا فى دفع إجراءات إصلاحية من خلال الجمعية التأسيسية. فى النهاية تم تفريغ مقترحات ممثلى الحزب من مضمونها و ما تم تمريره كان إجمالا فى حدود ما سمح به الجيش و حبيبى. شمل ذلك تكليف الحكومة بالتحقيق فى تهم الفساد الموجهة لسوهارتو و عائلته و لكنه لم يشمل مثلا التخلص من دور المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية. هذا الإقتراح على وجه الخصوص تم إختزاله إلى توصية موجهة للبرلمان لمراجعة حجم تمثيل الجيش فى الجمعية التأسيسية.
فى اليوم الأخير لأعمال الجمعية التأسيسية كان الشعور العام فى أروقتها أن الجيش و حبيبى قد نجحا فى توجيه أعمالها لتصب فى الإتجاه الذى إختاراه. كان التصويت على تحجيم تدخل الجيش فى العمل السياسى و الذى إنتهى إلى لا شيئ تقريبا ذروة النصر للجبهة الداعمة للجيش فى الجمعية إلى حد أن ويرانتو تجول بعد التصويت مباشرة بين مقاعد الأعضاء ليتلقى تهانيهم! فى الشوارع كان الأمور تمضى على عكس هذه الأجواء الإحتفالية فقد إندلع إشتباك دموى بين قوات الأمن و بين مسيرة ضخمة للطلبة كانت تحاول شق طريقها نحو مقر إنعقاد الجمعية. الإشتباك تجدد فيه إستخدام الرصاص الحى من قبل قناصة و إستخدام القوات فى المواجهة للرصاص المطاطى من مدى قريب مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا.
الإشتباكات و ضحاياها كانا مصدر إلهاء عن الجمعية و آثارها فى الأيام التالية و لكنهما كانا بالطبع مصدر حرج و إزعاج للجيش. فى المقابل كان إندلاع أحداث عنف طائفى بين الغالبية المسلمة و الأقلية المسيحية فى جاكارتا بشكل مفاجئ و لأسباب واهية ، مصدر إلهاء عن الإشتباكات و ضحاياها. مرة أخرى يبدو إندلاع مثل هذه الأحداث صدفة أكثر من ملائمة لحاجة الجيش إلى تحويل إنتباه الرأى العام عن إحدى جرائمه! و مرة أخرى يتحول مجال المواجهة بين القوى المناضلة من أجل ديموقراطية حقيقية من جانب و بين السلطة و تركيبتها التقليدية من جانب آخر إلى مواجهات داخل الكتلة الشعبية ذاتها. فى مثل هذه المواجهات طائفية أو فئوية إلخ يكون الشعور الطاغى بين الناس هو الخشية من الأسوأ و إنعدام الثقة فى الآخر و من ثم التعلق بالسلطة كمصدر طبيعى لإقرار الأمن و الحماية من الآخر. فى مقابل الحاجة الماسة إلى السلطة القوية القادرة على توفير الحماية و الأمن يصبح من غير المنطقى الدخول فى مواجهة مع هذه السلطة ذاتها. مثل هذه المواجهة لا بديل عن أن يكون أحد أهدافها المرحلية على الأقل هو إضعاف السلطة لإرغامها على قبول مطالب الإصلاح. بالنسبة للشخص العادى فى كل مكان يأتى أمنه على حياته مقدما على مطالبه بأى إصلاح يتوقع من ورائه تحسين ظروف هذه الحياة. لذلك فالخيار سهل و من ثم أن تضع السلطة شعبها أمام هذا الخيار هو دائما سلاحها الأكثر فعالية.
النخبة تأكل و العامة يضرسون
فى الشهور التالية لتنحى سوهارتو كان المشهد السياسى لإندونيسيا يتنازعه التجاذب بين أوجه إستمرارية نظام سوهارتو بدون رأسه و بين آثار غياب الرأس و ما تتيحه السيولة السياسية من فرص تثير فى نفس كل ذى نفوذ الرغبة فى إقتناص أكبر جزء ممكن من كعكة السلطة. لم يكن من الصعب تجنب الصورة و الوقائع المؤكدة لإستمرارية النظام نفسه فى الحكم مستخدما ليس فقط الأساليب و لكن الأشخاص أنفسهم أيضا. الرئيس كان هو الربيب السياسى لسوهارتو و آخر نائب له. البرلمان كان هو ذاته الذى إنتقى سوهارتو أعضائه سواء فى الأغلبية الحاكمة أو حتى المعارضة الصورية. الجيش كان هو ذاته المؤسسة التى أحكمت قبضتها الحديدية على مسار العمل السياسى لصالح سوهارتو ظاهريا و لكنها الآن كانت تفعل الشيئ نفسه لصالح استمرار نفوذها الطاغى. قوى المعارضة كانت كالعهد بها منقسمة و متشرذمة بل ربما أكثر تشرذما من أى وقت مضى مع حوالى 140 حزب يسعى لإكتساب الإعتراف الرسمى ليتمكن من خوض الإنتخابات البرلمانية فى يونيو 1999.
فى المقابل كانت سلوكيات هذه الأطراف التى لم يكن أى منها جديدا على الساحة هى ما يمكن أن يثير بعض الدهشة. قوى الحزب الحاكم القديم و الجيش و الرئيس كانوا أحيانا أكثر ميلا لإبهار غيرهم بإتخاذ مواقف تبدو أكثر إصلاحية أو أكثر حرصا على الديموقراطية. اللجنة التى أخرجت مشروعا لتعديل قوانين الإنتخابات فى نهاية 1998 كانت تحت إشراف وزير داخلية كان هو نفسه المشرف على عملية إخلاء مقر الحزب الديموقراطى من مؤيدى ميجاواتى المعتصمين فيه فى عام 1996. مع ذلك كان المشروع المعد من قبل هذه اللجنة و بدعم كبير من وزير الداخلية تقدميا ربما أكثر حتى مما كان زعماء المعارضة الرئيسيين يأملون. فى الواقع كانت توجهات هؤلاء أقرب إلى ميول الأكثر تشددا من أعضاء الحزب الحاكم فى البرلمان و نجحوا فى النهاية فى إدخال تعديلات محدودة على القوانين لصالح سيطرة أكبر لقادة الأحزاب على العملية الإنتخابية.
لكن فى أعين المواطن الإندونيسى نفسه كانت الصفة الأكثر بروزا لما بعد سوهارتو هى الفوضى! الآن و قد أصبح لكل فصيل على الساحة مصالحه التى تتلاقى حينا و تتناقض أحيانا مع غيره كانت مؤامرات الجميع ضد الجميع تستخدم الشارع لتبادل الضربات تحت الحزام أو لتحويل الأنظار عن هذه الفضيحة أو تلك التى فجرها الخصوم. النزاعات الطائفية بل و حوادث التفجير الإرهابية لم تعد أمر نادر الوقوع فى عاصمة كانت لفترة طويلة تنعم بقدر كبير من الدعة و الهدوء. فى يناير نشرت تفاصيل مكالمة هاتفية بين الرئيس و المدعى العام كشفت ماكان حتى الحين مجرد شكوك شبه مؤكدة. قبل كل شيئ كان من الواضح أن حبيبى يستخدم الإدعاء العام كأداة لتحقيق مآرب سياسية كسلفه. ثانيا إتضح أن العمل على التحقيق فى إتهامات الفساد لسوهارتو لم يكن جادا و أن الرئيس كان يامل أنه مع مرور الوقت سيتضاءل إصرار الرأى العام على دفع هذه القضية فيمكن قتلها بهدوء. أخيرا و ليس آخرا كان المؤكد أن الجيش و ويرانتو على رأسه كان الطرف الأكثر إصرارا على ألا يحاكم الرئيس.
الحقيقة الأخيرة لم تكن غائبة عن بال أحد. ربما كان حبيبى فى الواقع لأنه فى موقع اليائس الأكثر إستعدادا لتحدى الجيش فى أمر سوهارتو. فى المقابل كان زعماء المعارضة مثل ميجاواتى و عبد الرحمن وحيد أكثر وضوحا فى تأييدهم لإتباع سبيل متسامح مع الرئيس المتنحى. وحيد كان فى الواقع يتردد بشكل منتظم على مقر إقامة سوهارتو لزيارته أما ميجاواتى فأعلنت دائما أنها لا ترغب فى أن تعامل سوهارتو بالطريقة المذلة ذاتها التى عامل بها والدها سوكارنو. كانت ميجاواتى ترى أنها الأقرب إلى الفوز بمنصب الرئيس فى أى إنتخابات قادمة. فى الظاهر كانت شعبيتها طاغية و كانت مؤتمراتها الجماهيرية فى الأقاليم تجتذب مئات الآلاف من الأنصار المتحمسين. و لكن هذه الشعبية لم تكن كافية أبدا إذا ووجهت برفض الجيش و أهم من ذلك فإن النجاح فى إدارة إندونيسيا كان مستحيلا دون علاقة ودية مع المؤسسة التى كانت ظل البيروقراطية المدنية. كان إلى جوار كل مسؤول مدنى فى الدولة مسؤول عسكرى يراقب أعماله. أهم من ذلك كان للجيش وجود فى الأقاليم لا يترك قرية بدون أن يكون له فيها من يمثله. فى الواقع أمام هذا الحضور الطاغى فى مفاصل الدولة لم يكن تخلى الجيش عن نصف تمثيله البرلمانى أكثر من خطوة رمزية بلا قيمة و إن كان ويرانتو قد حرص على إبرازها بوصفها دليلا على رغية الجيش فى دفع التطور الديموقراطى للبلاد.
شعبية ميجاواتى لم تمر دون محاولات حثيثة من خصومها من مختلف الأطياف لتقليصها و الإنتقاص منها. كان أسهل الأدوات المتاحة هو الإشارة إلى أن ميجاواتى لم تكن ملتزمة دينيا كما ينبغى و أن لها ميول واضحة نحو الأقليات الدينية غير المسلمة. فى الواقع كانت ميجاواتى تنتهج سياسة شبيهة بسياسة والدها فى التقارب مع الأقليات الدينية من منطلق كون فلسفة حكمه قومية فى الأساس تغلب الرابطة الوطنية عن غيرها. هذه السياسة كانت تثير قلق الإسلاميين بإختلاف أطيافهم أو على الأقل تجعلهم يدركون أن فرصهم للفوز بإمتيازات جديدة هى أقل ما تكون إن لم تنعدم إن كانت ميجاواتى هى الرئيس المقبل. أستخدم خصوم ميجاواتى كل واقعة يمكن تصويرها كتفضيل لغير المسلمين أو تهاون فى الإلتزام الصارم بالدين كفرصة لإثارة الكثير من الضجة الإعلامية. و لم يكن هذا دون أثر. فعلى أقل تقدير تأثر بذلك التحالف الذى بدا قويا فى البداية بينها و بين عبدالرحمن وحيد. بمرور الوقت كان وحيد يجد صعوبة فى تأكيد هذا التحالف تحت ضغط أعضاء حزبه الإسلامى التقليدى و من خلفه جماعة نهضة العلماء.
على خلاف ما توقعه المراقبون نظرا لحال الفوضى السائدة فى البلاد مرت الإنتخابات البرلمانية بهدوء تام! الإقبال الجماهيرى على التصويت كان ضخما و إلتزام الناخبين بالهدوء التام و هم يصطفون فى طوابير طويلة إنتظارا لدورهم للتصويت أخرج صورة ناقضت التوقعات و ناقضت أيضا فوضى صراع النخبة السياسية. أثبت الشعب أنه بالتأكيد أكثر حضارية من نخبته و حكامه و كشف بوضوح أن الفوضى السائدة كانت بلا شك مصطنعة و مدبرة. نتائج الإنتخابات نفسها عكست إلى حد كبير ماكان يمكن توقعه. فاز حزب ميجاواتى بأكثرية بنسبة 34% و تلاه الحزب الحاكم سابقا بنسبة 22%. حصلت الأحزاب الإسلامية المنقسمة على نفسها على نسب 12% لحزب عبدالرحمن وحيد و 11% لحزب التنمية الممثل الوحيد سابقا للإسلاميين بالبرلمان ثم 7% فقط لحزب أمين رئيس.
تمكن حزب سوهارتو من تحقيق نتائج جيدة فى الإنتخابات كان سببه تغلغل الحزب و قياداته التقليدية فى أنحاء البلاد المترامية الأطراف و خاصة فى الجزر الخارجية و الأقاليم. توزيع الدوائر الإنتخابية الذى أشرف عليه البرلمان القائم حرص على تعظيم هذه الميزة بمنح الأقاليم عددا أكبر من المقاعد لا يتناسب مع توزيع السكان. إنعكس ذلك فى أن نسبة الأصوات التى جمعها حزب ميجاواتى مثلا ترجم إلى نسبة أقل من المقاعد فى حين حصل الحزب الحاكم على نسبة مقاعد أعلى من نسبة الأصوات.
المحصلة كانت أن قوى النظام القديم لم يكن بالإمكان تجاهلها فى أى ترتيبات قادمة للسلطة. ليس الجيش فقط و إنما حتى عناصر حزب سوهارتو نفسه. نتيجة لذلك وجدت ميجاواتى نفسها مضطرة إلى إجراء تفاهمات مع رئيس الحزب الذى كان مع الوقت تتباعد مواقفه عن مواقف حبيبى. كان واضحا أن الرهان على حبيبى الآن هو خاسر لا محالة خاصة مع إضافة المزيد من فضائح الفساد المالى لإدارته فى كل يوم. و كان رئيس الحزب يبحث الآن عن حليف يمكن التعويل على مستقبله السياسى.
لم يكن حبيبى يفقد فقط قاعدة تأييده فى داخل حزبه و لكنه كان فى الوقت ذاته يفقد تأييد الجيش. فى سعيه لإيجاد أى عون لضمان مستقبله السياسى إتجه نظر الرئيس نحو الخارج. كانت فكرته هى أن الدعم الخارجى هو الضامن الرئيسى لحصول إندونيسيا على المساعدات المطلوبة للخروج من أزمتها الإقتصادية الخانقة التى تقاقمت منذ تنحى سوهارتو. فى سبيل تأمين هذا الدعم الخارجى فاجأ حبيبى العالم بإعلان إستعداده لإجراء إستفتاء شعبى فى تيمور الشرقية على حق تقرير المصير لشعبها. الإقليم الصغير الذى استولت إندونيسيا عليه بعدما غادره الإستعمار البرتغالى كان قد شهد حربا إنفصالية ضروس. إضافة إلى أن الجيش كان يشعر بأنه قد قدم من التضحيات فى سبيل إبقاء تيمور الشرقية تحت حكم إندونيسيا ما يكفى لجعل فصل الإقليم إهانة مباشرة له، كان هناك أيضا لقادته مصالح إقتصادية كبيرة فى الإقليم على فقر إقتصاده. كان الجيش يسيطر على غالبية إقتصاد تيمور الشرقية و بشكل خاص على حاصلاتها من البن التى أدار الجيش زراعته بالشراكة مع أحد أبناء سوهارتو.
الإستفتاء على الإستقلال فى تيمور الشرقية كانت له نتائج كارثية بالنسبة لحبيبى و للجيش معا فى الخارج و الداخل بدرجات متفاوتة. شكل ويرانتو قيادة إقليمية جديدة لتنفيذ برنامج لم يتضح لأحد حتى اليوم الأهداف الحقيقية من ورائه. إعتمد هذا البرنامج على توسعة الميليشيات المدنية التى يديرها الجيش فى الإقليم ثم إطلاقها لإحداث أكبر قدر ممكن من الفوضى فيه. إستهدفت الميليشيات القادة اٌقليميين الداعين للإستقلال و عائلاتهم ثم إستهدفت أيضا موظفى بعثة الأمم المتحدة المشرفة على الإستفتاء. و فى النهاية كانت مهمة الميليشيات و قوات الجيش هى تطبيق سياسة الأرض المحروقة و إحداث أكبر قدر من الدمار بعدما أصبح من المؤكد أن السكان سيختارون الإنفصال عن إندونيسيا. كان سلوك الجيش فى تيمور الشرقية فضيحة بكل المقاييس و إستجلب إستهجانا دوليا كبيرا و من ثم دمر بشكل تام الهدف الأصلى الذى من أجله أحيا حبيبى هذه القضية.
فى هذه الأثناء و بينما كانت سمعة الجيش تكاد تبلغ الحضيض بسبب جرائمه فى تيمور الشرقية و جرائم أخرى أقل حجما فى أقاليم أخرى. دفع ويرانتو بكل قوته من أجل تمرير قانون يعلن حالة الأحكام العرفية فى البلاد و يطلق يد الجيش عمليا فى التنكيل بأى معارضة! كان برلمان سوهارتو مازال قائما. إضافة إلى ذلك لم يكن أى من السياسيين المتطلعين إلى إنتخابات الرئاسة فى الجمعية التأسيسية بعد أيام مستعدا للدخول فى مواجهة مع الجيش. وحدهم الطلبة نظموا مظاهرات حاشدة رافضة للقانون قبل و بعد تمريره إنتهى آخرها نهاية دموية بعدما أطلقت قوات الأمن الرصاص الحى فى مواجهتها.
مع إنعقاد الجمعية التأسيسية لإختيار رئيس جديد كانت حسابات توزيع الأصوات بين المتنافسين شديدة التعقيد و أغلبها معلق فى الفراغ. لم يكن ثمة أى ضمانات لأن يذعن الأعضاء الممثلون لكل حزب لإملاءات قياداته. فى الواقع كانت هذه القيادات منقسمة فيما بينها. الحزب الحاكم لم يكن كله مؤيدا لمرشحه المعلن و هو حبيبى. كان ثمة شائعات قوية عن إنجياز عدد كبير من أعضائه خلف رئيس الحزب مع ميجاواتى مقابل وعود بمناصب مختلفة. الإسلاميون كانوا منقسمين بدورهم بين الأحزاب المختلفة و داخل كل حزب أيضا. عبدالرحمن وحيد كان قد حسم أمره أخيرا فأعلن أنه لا يؤيد ميجاواتى و لكن لم يكن مؤكدا أن أعضاء حزبه سيحذون حذوه فيحجبون عنها أصواتهم. أمين رئيس فاجأ الجميع بترشيح عبدالرحمن وحيد خصمه اللدود للمنصب. بقية القوى الإسلامية كان منها من لا يزال على تأييده لحبيبى أما البعض الآخر فلم يكن معروفا توجهاتهم.
أضاف إلى التعقيد أن 200 عضو كان لابد من تعيينهم من خلال عمليات إنتخاب معقدة فى المجالس المحلية و فى عدد من الجمعيات الأهلية. إنتخابات المجالس المحلية لممثليها كانت رائحة الرشاوى المالية تفوح منها بوضوح و تمخضت عن تمثيل الحزب الحاكم بأكثر كثيرا مما يمكن توقعه بناءا على تمثيله فى هذه المجالس. استخدام الرشاوى الإنتخابية لم يقتصر على الإنتخابات التمهيدية لأعضاء الجمعية التأسيسية المعينين بل إنتقل إلى الجمعية ذاتها التى قطع أعمالها إجازة لمدة 10 أيام قبل التصويت على إنتخاب أصحاب المناصب الرئيسية فى الدولة، كانت أكثر من كافية لعقد شتى أنواع الصفقات مع الأعضاء. فاقم من ضبابية الموقف أن الجمعية قررت أن يكون التصويت سريا. و هكذا كان أول إنتخاب لرئيس بعد إسقاط سوهارتو محاطا بكل أنواع الشك فى نزاهته بينما كانت الشفافية منعدمة دون شك.
كواليس الجمعية التأسيسية كانت نموذجا للألعاب السياسية. ترك كل السياسيين على أبواب مقر البرلمان حيث تعقد الجمعية إجتمعاتها كل حللهم الأيديولوجية المزخرفة. تركوا عداواتهم المعلنة و المبنية على تناقض مواقفهم السياسية. تناسوا بكل سهولة كل وعودهم أو تهديداتهم التى أعلنوها على منصات الخطابة فى طول البلاد و عرضها. فى الغرف المغلقة دخل كل زعيم سياسى إلى الموائد الخضراء عاريا من كل شيئ إلا من أوراق اللعب و طموحاته التى ينوى تحقيقها بأن يستخدم أوراق لعبه بأفضل شكل ممكن. فى غياب كتل تصويتية متماسكة و مضمونة كان لكل تجمع صغير من الأصوات قيمته. 40 من الأصوات قد تحول نتيجة التصويت المتقارب من جانب إلى نقيضه. و لذا كان بناء تحالف لضمان نتيجة التصويت أمرا عسيرا و مجهدا و يتطلب عشرات الإجتماعات التى يتبادل فيها السياسيون توزيع الخدمات المستقبلية. و حيث أن لكل كتلة صغيرة وزنها فلكل متحكم فى أى عدد من الأصوات أن يقايضها بما يرضيه.
كان على الجمعية أولا أن تصوت على قبول أو رفض بيان الرئيس حبيبى عن فترة رئاسته القصيرة. فى عهد سوهارتو كان هذا التصويت مجرد أحد الطقوس الشكلية. فى هذه المرة كان المر مختلفا. لم يكن حبيبى قادرا حتى على الثقة فى أن ممثلى حزبه سيمنحونه أصواتهم. أهمية هذا التصويت كانت بسيطة و واضحة. إن رفضت غالبية الجمعية بيان الرئيس فهى بالضرورة لن تصوت لاحقا لإنتخابه لفترة جديدة. كان هذا تصويتا مبكرا على آمال حبيبى فى الإستمرار فى منصبه. حاول الرجل قدر المستطاع الضغط لضمان تصويت أعضاء حزبه لصالحه و تلقى وعدا بذلك. حاول أيضا ضمان أصوات ممثلى الجيش فعرض على ويرانتو منصب نائب الرئيس. و لكن الأخير رغم تطلعه إلى المنصب كان يرغب فى تلقى العرض من مرشح آخر غير حبيبى. بشكل خاص كان ويرانتو يتوقع أن يأتى العرض من ميجاواتى التى بذلت جهدا ملحوظا فى مغازلة الجيش طوال شهور و عبر كل سلسلة فضائحه فى تيمور و غيرها. رفض ويرانتو عرض حبيبى علنا و لكنه إستخدم أكثر العبارات ضبابية. فهو لا يريد أن يتدخل الجيش مباشرة فى الحياة السياسية و لكن إذا أرتئى أن توليه للمنصب ضرورى لمستقبل إندونيسيا فسوف يقبله. بإختصار لا أريد أن أرتبط بحبيبى و لكنى مستعد لسماع عروض أفضل.
كان التصويت مع و ضد بيان حبيبى متقاربا و لغير صالحه. تحطمت آمال الرئيس فى الفوز بمدة رئاسة ثانية و أصبح على الحزب الحاكم السعى لإيجاد مرشح بديل. المؤكد أن ما حدد نتيجة التصويت كان هو أصوات أعضاء الحزب الحاكم نفسه من أتباع رئيسه الحالى. و رغم نقمة حبيبى على الرجل إلا أن تحكمه فى هذا العدد من الأصوات الكافى لأرجحة التصويت من جانب إلى آخر أجبره على أن يقبل الإجتماع به لبحث مناورات التصويت القادم. الهدف كان تجنب فوز ميجاواتى و محاولة الدفع بمرشح للحزب. عرضت العديد من الأسماء كان من بينها ويرانتو و رفض الجميع. فى النهاية عرض الأمر على رئيس الحزب الرجل الذى طعن رئيسه فى ظهره منذ ساعات و رضى فى البداية ثم تراجع قبل بدء التصويت بساعة واحدة.
كان أمين رئيس قد نجح فى حيازة منصب رئيس الجمعية التأسيسية سابقا من خلال جولة ناجحة بين موائد التفاوض. و الآن فى مستهل جلسة إنتخاب رئيس جديد لإندونيسيا تلا على الأعضاء قائمة أسماء المرشحين. كان ثمة ثلاثة أسماء، ميجاواتى و وحيد و مرشح ثالث دفعت به الأحزاب الإسلامية المعادية لميجاواتى. كان هؤلاء يساورهم الشك فى أن ترشح وحيد لم يكن إلا خدعة. الرجل الذى صرح طوال شهور بانه لا يسعى للمنصب و أنه غير مؤهل له نظرا لكبر سنه و تدهور صحته و ضعف بصره الحاد. و الرجل الذى كان صديقا مقربا لسنوات من ميجاواتى. ربما كان ترشحه فقط سبيلا لإخلاء الساحة بحيث يتنازل عن الترشح فى اللحظة الأخيرة و يقدم المنصب لحليفته القديمة على طبق من ذهب. المرشح الثالث كان ضمانة ضد خطوة كهذه. و مع ذلك سعى أحد قادة هذه الكتلة إلى التثبت من وحيد. و فى خضم التوتر المخيم فى الدقائق الأخيرة قبل التصويت مال الرجل على أذن وحيد يسأله: “هل أنت ماض فى هذا إلى النهاية؟” و أتت إجابة وحيد قاطعة: “بسم الله! بالتأكيد”. و سحبت الأحزاب الإسلامية مرشحها!