استقبال شهر رمضان
أحمد محمد شاكر
نشر سنة 1361هـ
لقد أظلَّكم شهر رمضان؛ شهر الصيام، شهر العبادة، شهر سمو الروح ونقائها، ويوشك أن تصبحوا غدًا صائمين... فهل أعددتم العدة لاستقباله؛ فحاسبتم أنفسكم على ما أسلفتم من خير، تحمدون الله عليه، وتسألونه التوفيق إلي المزيد منه، أو شرٍّ تأسفون عليه، وتتوبون وتستغفرون الله منه، وتسألونه أن يحفظكم من العودة إليه.
هكذا يُستقبل شهر رمضان، وأخشى أن يفهم كثير من الناس أن رمضان يُستقبل بالاحتفالات الرسمية، والاستعداد للتألُّق في المأكل والمشرب، والاستكثار من ألوان الطعام والشراب، والاستعداد لأصناف من اللهو واللعب في السهرات، ثم لا يفكرون فيما وراء ذلك!
أيُّها الناس: إنَّ الله شرع لكم الصيام تطهيرًا لأرواحكم، وحفظًا لها من طغيان الجسد وشهواته، ولم يشرعه لتقاسوا آلام الجوع والعطش فقط، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
شرع الله لنا صيام نهار رمضان، وقيام ليله، فجعله شهر عبادة، بذكر الله وقراءة القرآن، والإكثار من الصلاة، وخاصة صلاة الليل، وجعل ثوابه أعظم الثواب.
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلَّا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلى . للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك)).
أيُّها السادة: إنِّي أرى في كثير مما اتخذنا من العادات في الصوم ما ينافي حقيقته، بل ما يحبط الأجر عليه، بل ما يزيد الإنسان به إثمًا. فَهِمنا أنَّ معنى قيام الليل، سهر الليل، فسرنا نسهر في القهوات والنوادي، لا نفكِّر إلا في اللهو واللعب، إلي ساعة متأخرة من الليل، ثم نأكل ما شاء الله أن نأكل، ثم نصبح مرهقين متعبين، قد ضاقت صدورنا، واضطربت أعصابنا، وساءت أخلاقنا، فلا يكاد اثنان يتحدثان، حتى ينفجر الغضب، وتثور الثائرة، وتتدفَّق الألفاظ النابية، إلي ما ترون من حال، كلُّكم تعرفونها، وقد تعتذرون لصاحبها بأنَّه صائم. ولا استثني من ذلك أحدًا إلا من عصم الله. فانظروا وتفكروا، وقارنوا هذه الحال الشاذة الشائعة في الصوم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم إني صائم)). وذلك أنَّ الصائم ينبغي أن يكون هادئ النفس، رضي الخلق، يضع نصب عينه أنَّ الصيام جُنَّة له من الآثم، جُنَّة له من سوء الخلق، جُنَّة له مِن المعاصي، جُنَّة له من فحش القول، جُنَّة له من قول الزور والعمل به.
والذي ينبغي لكم في هذا الشهر المبارك– إن سمعتم لنصحي– أن تتَّبعوا شريعتكم في الصيام ؛ فتقتصدوا في الطعام والشراب، عند الفطور وعند السحور، وأن تجعلوا سهركم، إن سهرتم، في قراءة القرآن وتدبُّره، ومن استطاع منكم أن يقوم الليل فليفعل ؛ وذلك أن يصلي في بيته أو مسجده ما شاء الله له أن يصلى. وهذه هي صلاة التراويح التى غُيِّرت عن أصلها، فصار المصلون ينقرونها سراعًا في وقت تصير بعد صلاة العشاء، صلاة لا تنفع ولا تقبل، وإنما الصلاة ما كانت في خشوع وطمأنينة، وكلما أخَّرها المصلِّى إلي ما بعد الثلث الأول من الليل كان أفضل. ثم ينام أحدكم ما شاء الله له أن ينام، ثم يقوم قبل الفجر فيطعم طعامًا خفيفًا للسحور، ثم يصلي الفجر، وإن شاء نام بعد ذلك، وإن شاء تصرَّف في شأنه وعمله.
أمَّا الذين يأكلون عند انقضاء سهرتهم، ثم ينامون إلي ما بعد طلوع الشمس- فإنهم يخالفون سنة الإسلام في السحور، وأخشى أن يذهب تركهم صلاة الفجر بثواب صيامهم، فلا هم صاموا ولا هم أفطروا. وليس لله حاجة في أن يدعوا طعامهم وشرابهم، إذ لم يطيعوا أمره ؛ ولم يأخذوا بسنة نبيه، وإذ أضاعوا صلاة الفجر عن وقتها عمدًا.
أيُّها السادة: إنَّ الأُمَم تُصهر الآن في النيران، عقابًا لها على ما كفرت بأنعم الله، ولعلَّ الله قد صان بلاد الإسلام من كثير مما يلاقي غيرها، لحكمة يعلمها؛ ومأثرة يدَّخرها لهم، أن يعود للإسلام مجده، وأن يعود المسلمون حكام الدنيا كما كانوا. ولكن هذا إذا كانوا مسلمين، وإذا تمسَّكوا بدينهم، وأقاموا شريعته، واهتدوا بهديه. والنُّذُر من بين أيديكم ومن خلفكم، فاعتبروا واخشوا ربكم، فقد ترى من تهافت المسلمين على المنكرات، ما نخشى أن يعمَّهم الله بالعقاب من أجله، وها أنتم أولاء ترون المجاهرين بالمعاصي، لا يخافون الله، ولا يستحيون من الناس، ولا يخشون عاقبة ما يصنعون.
وقد كان مما نرى من مجاهرتهم ربهم بالحرب؛ أن يجاهروا بالإفطار في رمضان في الطرقات، والأماكن العامة، وفي دواوين الحكومة، يزعمون أنهم يحتمون بما يدعونه الحرية الشخصية، وما هكذا كانت الحرية، وما هكذا تكون الأمم في تمسكها بمقوماتها وعاداتها وشعائر دينها. وكان هذا العمل يؤذي المسلمين الصادقين في شعورهم، ويحرج صدورهم .
وقد وفق الله الرجل الصالح: الزعيم الجليل، صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس ، فأصدر بالأمس القريب كتابًا عظيمًا في هذا الشأن؛ حفظ على المسلمين كرامتهم وصان لهم شعورهم، ورفع الحرج عن قلوبهم. فأمر أن لا يجاهر مفطر بفطره؛ مسلمًا كان أو غير مسلم، احترامًا لحق الأمة في الاستمساك بشعائرها وتقاليدها. فكان عمله عمل رجل يعرف ما يريد، ويعرف كيف يضع الأمور مواضعها ، مستعينًا متوكلًا عليه.
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر)، اعتنى بها عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل - دار الرياض 1426هـ، (1/421) بتصرف.
أحمد محمد شاكر
نشر سنة 1361هـ
لقد أظلَّكم شهر رمضان؛ شهر الصيام، شهر العبادة، شهر سمو الروح ونقائها، ويوشك أن تصبحوا غدًا صائمين... فهل أعددتم العدة لاستقباله؛ فحاسبتم أنفسكم على ما أسلفتم من خير، تحمدون الله عليه، وتسألونه التوفيق إلي المزيد منه، أو شرٍّ تأسفون عليه، وتتوبون وتستغفرون الله منه، وتسألونه أن يحفظكم من العودة إليه.
هكذا يُستقبل شهر رمضان، وأخشى أن يفهم كثير من الناس أن رمضان يُستقبل بالاحتفالات الرسمية، والاستعداد للتألُّق في المأكل والمشرب، والاستكثار من ألوان الطعام والشراب، والاستعداد لأصناف من اللهو واللعب في السهرات، ثم لا يفكرون فيما وراء ذلك!
أيُّها الناس: إنَّ الله شرع لكم الصيام تطهيرًا لأرواحكم، وحفظًا لها من طغيان الجسد وشهواته، ولم يشرعه لتقاسوا آلام الجوع والعطش فقط، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
شرع الله لنا صيام نهار رمضان، وقيام ليله، فجعله شهر عبادة، بذكر الله وقراءة القرآن، والإكثار من الصلاة، وخاصة صلاة الليل، وجعل ثوابه أعظم الثواب.
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلَّا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلى . للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك)).
أيُّها السادة: إنِّي أرى في كثير مما اتخذنا من العادات في الصوم ما ينافي حقيقته، بل ما يحبط الأجر عليه، بل ما يزيد الإنسان به إثمًا. فَهِمنا أنَّ معنى قيام الليل، سهر الليل، فسرنا نسهر في القهوات والنوادي، لا نفكِّر إلا في اللهو واللعب، إلي ساعة متأخرة من الليل، ثم نأكل ما شاء الله أن نأكل، ثم نصبح مرهقين متعبين، قد ضاقت صدورنا، واضطربت أعصابنا، وساءت أخلاقنا، فلا يكاد اثنان يتحدثان، حتى ينفجر الغضب، وتثور الثائرة، وتتدفَّق الألفاظ النابية، إلي ما ترون من حال، كلُّكم تعرفونها، وقد تعتذرون لصاحبها بأنَّه صائم. ولا استثني من ذلك أحدًا إلا من عصم الله. فانظروا وتفكروا، وقارنوا هذه الحال الشاذة الشائعة في الصوم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم إني صائم)). وذلك أنَّ الصائم ينبغي أن يكون هادئ النفس، رضي الخلق، يضع نصب عينه أنَّ الصيام جُنَّة له من الآثم، جُنَّة له من سوء الخلق، جُنَّة له مِن المعاصي، جُنَّة له من فحش القول، جُنَّة له من قول الزور والعمل به.
والذي ينبغي لكم في هذا الشهر المبارك– إن سمعتم لنصحي– أن تتَّبعوا شريعتكم في الصيام ؛ فتقتصدوا في الطعام والشراب، عند الفطور وعند السحور، وأن تجعلوا سهركم، إن سهرتم، في قراءة القرآن وتدبُّره، ومن استطاع منكم أن يقوم الليل فليفعل ؛ وذلك أن يصلي في بيته أو مسجده ما شاء الله له أن يصلى. وهذه هي صلاة التراويح التى غُيِّرت عن أصلها، فصار المصلون ينقرونها سراعًا في وقت تصير بعد صلاة العشاء، صلاة لا تنفع ولا تقبل، وإنما الصلاة ما كانت في خشوع وطمأنينة، وكلما أخَّرها المصلِّى إلي ما بعد الثلث الأول من الليل كان أفضل. ثم ينام أحدكم ما شاء الله له أن ينام، ثم يقوم قبل الفجر فيطعم طعامًا خفيفًا للسحور، ثم يصلي الفجر، وإن شاء نام بعد ذلك، وإن شاء تصرَّف في شأنه وعمله.
أمَّا الذين يأكلون عند انقضاء سهرتهم، ثم ينامون إلي ما بعد طلوع الشمس- فإنهم يخالفون سنة الإسلام في السحور، وأخشى أن يذهب تركهم صلاة الفجر بثواب صيامهم، فلا هم صاموا ولا هم أفطروا. وليس لله حاجة في أن يدعوا طعامهم وشرابهم، إذ لم يطيعوا أمره ؛ ولم يأخذوا بسنة نبيه، وإذ أضاعوا صلاة الفجر عن وقتها عمدًا.
أيُّها السادة: إنَّ الأُمَم تُصهر الآن في النيران، عقابًا لها على ما كفرت بأنعم الله، ولعلَّ الله قد صان بلاد الإسلام من كثير مما يلاقي غيرها، لحكمة يعلمها؛ ومأثرة يدَّخرها لهم، أن يعود للإسلام مجده، وأن يعود المسلمون حكام الدنيا كما كانوا. ولكن هذا إذا كانوا مسلمين، وإذا تمسَّكوا بدينهم، وأقاموا شريعته، واهتدوا بهديه. والنُّذُر من بين أيديكم ومن خلفكم، فاعتبروا واخشوا ربكم، فقد ترى من تهافت المسلمين على المنكرات، ما نخشى أن يعمَّهم الله بالعقاب من أجله، وها أنتم أولاء ترون المجاهرين بالمعاصي، لا يخافون الله، ولا يستحيون من الناس، ولا يخشون عاقبة ما يصنعون.
وقد كان مما نرى من مجاهرتهم ربهم بالحرب؛ أن يجاهروا بالإفطار في رمضان في الطرقات، والأماكن العامة، وفي دواوين الحكومة، يزعمون أنهم يحتمون بما يدعونه الحرية الشخصية، وما هكذا كانت الحرية، وما هكذا تكون الأمم في تمسكها بمقوماتها وعاداتها وشعائر دينها. وكان هذا العمل يؤذي المسلمين الصادقين في شعورهم، ويحرج صدورهم .
وقد وفق الله الرجل الصالح: الزعيم الجليل، صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس ، فأصدر بالأمس القريب كتابًا عظيمًا في هذا الشأن؛ حفظ على المسلمين كرامتهم وصان لهم شعورهم، ورفع الحرج عن قلوبهم. فأمر أن لا يجاهر مفطر بفطره؛ مسلمًا كان أو غير مسلم، احترامًا لحق الأمة في الاستمساك بشعائرها وتقاليدها. فكان عمله عمل رجل يعرف ما يريد، ويعرف كيف يضع الأمور مواضعها ، مستعينًا متوكلًا عليه.
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر)، اعتنى بها عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل - دار الرياض 1426هـ، (1/421) بتصرف.