size=24]
من الناس من لا يكاد يهمه من الإسلام إلا الشكل لا الجوهر، والصورة لا الحقيقة؛ فأهم ما يعنى به في دينه: إعفاء اللحية وتطويلها، وتقصير الثوب، وحمل المسواك، ولصق القدم بالقدم في الصلاة، أو وضع اليدين في القيام عند الصدر أو فوق السرة، والشرب قاعدًا لا قائمًا، وتحريم جميع أنواع الغناء والموسيقى، وإيجاب لبس النقاب على المرأة، ونحو ذلك. وهذه كلها أمور تتعلق بالمظهر أكثر مما تتعلق بالجوهر، وكنت أود من إخوتي هؤلاء لو وجّهوا أكبر عنايتهم إلى الجوهر والروح في تعاليم الإسلام، بدل الشكل والمادة.
فالإسلام عقيدة: جوهرها التوحيد، وعبادة: جوهرها الإخلاص، ومعاملة: جوهرها الصدق، وخُلق: جوهره الرحمة، وتشريع: جوهره العدل، وعمل: جوهره الإتقان، وأدب: جوهره الذوق، وعلاقة: جوهرها الأخوة، وحضارة: جوهرها التوازن.
فمن ضيع التوحيد في العقيدة، والإخلاص في العبادة، والصدق في المعاملة، والرحمة في الخُلُق، والعدل في التشريع، والإتقان في العمل، والذوق في الأدب، والأخوة في العلاقة، والتوازن في الحضارة: فقد ضيع جوهر الإسلام، وإن تمسك بظواهر الرسوم والأشكال.
وليس هذا القول مجرد دعوى بلا دليل، بل الأدلة على هذا القول من القرآن والسنة كثيرة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم. ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذ اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه.
الإيمان بين المعرفة والتطبيق
يحسب بعض الناس أن الإيمان الذي ينجي الإنسان من النار، ويؤهله لدخول الجنة في الآخرة، ويجعله أهلا لولاية الله تعالى ونصرته ودفاعه في الدنيا مجرد معرفة ذهنية، كثيرًا ما يُحشى بها عقله. وبعبارة أدق: تخزن في ذاكرته في فترة الصبا ويلقنها تلقينًا أن الله تعالى واحد لا شريك له، وأنه سبحانه متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص، وأن له صفات عليا هي كذا وكذا.
وما زلت أذكر كيف كانوا يلقنوننا -ونحن في الكُتَّاب- العقيدة، على مذهب الأشاعرة المتأخرين، وهي: أن لله تعالى صفاتٍ عشرين هي: الوجود، والقدم، والبقاء، ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه تعالى بنفسه، والوحدانية، والعلم، والإرادة، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وكونه تعالى عالمًا، ومريدًا، وقادرًا، وحيًّا، وسميعًا، وبصيرًا، ومتكلّمًا.
وكنا نحفظ هذه الصفات بترتيبها هكذا، ولا نعرف من معناها شيئًا.
وبعد أن كبرت ووعيت حاولت أن أفهم الفرق بين العلم، وكونه تعالى عالمًا، والقدرة وكونه تعالى قادرًا... إلخ. ولم أستطع أن أفهم، ولم أجد من قدر على أن يفهمني، برغم أننا درسنا هذه الصفات في المراحل الابتدائية، والثانوية، والعالية، من الدراسة في الأزهر الشريف.
وأهم من ذلك أن هذه الدراسة للعقيدة لم تكن تلمس في روح الإنسان وترًا، أو تحرك له قلبًا، أو تحيي فيه ضميرًا. إنها دراسة جافة، خاوية من رحيق الإيمان الحق الذي يقوم عليه منهج القرآن في تكوين الإيمان، وفي تثبيت الإيمان.
وهو منهج يقوم على النظر والتفكر في آيات الله تعالى: في الأنفس، والآفاق: "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف: 185) "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ" (الذاريات: 20، 21) "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ" (آل عمران: 190).
وقد أعجبت بالمنهج السلفي؛ لعنايته بالرجوع إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة في إثبات العقيدة وتثبيتها، مرجحًا أساليب القرآن على أساليب فلسفة اليونان، حسب تعبير العلامة ابن الوزير اليماني.
كما أعجبني من هذا المنهج تركيزه على تحرير التوحيد من كل شوائب الشرك؛ أكبره وأصغره، جليه وخفيه، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وتجريد العبودية لله وحده.
ولكن الاتجاه السلفي المعاصر: غرق في خضم الجدل في مسائل العقيدة، وغدا شغله الشاغل، ما يتعلق بما سماه "آيات الصفات"، و"أحاديث الصفات"، والمراد بها الصفات الخبرية التي وقع النزاع بين السلف والخلف حول تأويلها أو عدمه. وكأنما هي لب العقيدة، وجوهر التوحيد.
ومأخذي على هذا الاتجاه -كما يلقّن الآن- أمران:
الأول: تركيزه على هذا الموضوع المختلف فيه، على حساب المتفق عليه، والذي هو الأصل في العقيدة من إثبات وجود الله تعالى، ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، وتجريد العبادة له وحده، ووصفه بكل كمال يليق به عز وجل، ونفي كل نقص عنه من الشريك والولد والنِّد والشبيه "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء" (الشورى: 11) "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد" (الإخلاص: 3، 4).
والواجب تدريس هذه الأشياء المختلف فيها، كما جاءت في القرآن والسنة، لا أن يُجمع بعضها مع بعض في سياق واحد، يعطي من الظلال ما لا يعطيه سياقها في مواقعها المتفرقة من الكتاب والسنة.
الثاني: أن هذا الاتجاه وقع فيما وقع فيه الاتجاه العقلاني الأشعري الآخر، من اعتبار الإيمان مسألة معرفية ذهنية، وبعبارة أخرى: استيعاب عبارات مرصوصة، وحفظ جمل ومصطلحات مصبوبة في قوالب جامدة.
فمن حفظ هذه العبارات أو المصطلحات فقد سلمت عقيدته، وصح إيمانه، وتحرر توحيده من الشركيات والكفريات.
إيمان القرآن والسنة
إن إيمان القرآن والسنة شيء آخر. إنه نور يضيء كل جوانب النفس، ينير العقل، وينعش الوجدان، ويحرك المشاعر، ويحفز الإرادة. إنه قوة هادية، وقوة محركة، وقوة ضابطة، وقوة مطمئنة.
الإيمان قوة هادية:
هو قوة هادية؛ لأنه يحدد للإنسان وجهته، ويعرفه غايته ومنهاجه، فيحيا على نور، ويمضي على بصيرة.
"وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه" (سورة التغابن: 11) "وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم" (سورة آل عمران: 101) " أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا" (سورة الأنعام: 122).
هذه القوة هي التي جعلت إبراهيم الخليل عليه السلام يرفض ربوبية الكواكب والقمر والشمس؛ إذ يقول: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الأنعام: 79).
قوة حافزة:
وهو قوة محركة، تحفز الإنسان إلى العطاء والبناء، وعمل الصالحات، واستباق الخيرات؛ ولذا قرن القرآن الإيمان بالعمل في نحو تسعين موضعًا؛ ولهذا قال السلف: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وحين قال اليهود والنصارى: "لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى" رد عليهم القرآن بقوله: "وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (سورة البقرة: 111، 112).
فهذا هو البرهان على صدق الإيمان؛ إسلام الوجه لله مع إحسان العمل.
والقرآن يجسد الإيمان في أخلاق ومشاعر وأعمال، لا في جمل وعبارات فقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" (سورة الأنفال: 2 - 4).
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (سورة الحجرات: 15).
يؤكد ذلك أحاديث الرسول الكريم التي جعلت الإيمان بضعًا وستين، أو بضعًا وسبعين شعبة، ألفت فيها كتب جامعة، لبيانها وإحصائها وشرحها.
وفي الصحيحين: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان".
الإيمان هو الذي جعل إبراهيم الخليل عليه السلام يقدم على ذبح ولده وفلذة كبده طاعة لله، وجعل ابنه الفتى المترعرع، يقول لأبيه وقد قال له: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: 102).
قوة ضابطة:
والإيمان كما أنه قوة دافعة إلى فعل الخير هو كذلك قوة ضابطة تزع صاحبها عن الشر، وتلجمه بلجام التقوى، وتردعه عن الإثم، وعن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
الإيمان هو الذي يضع نصب عيني المؤمن دائمًا رقابة الله تعالى، وحساب الآخرة، وعقيدة الثواب والعقاب، والجنة والنار، وبذلك يكون هو رقيبًا على نفسه، يشارطها قبل العمل، ويحاسبها بعد العمل، ويلومها عند التقصير، وقد يعاقبها بالتقريع والتأنيب، وبغيرهما من وسائل التأديب. كما هو شأن "النفس اللوامة".
الإيمان هو الذي جعل ابن آدم الخيّر يقول لأخيه الشرير: "لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (المائدة: 28).
الإيمان هو الذي جعل يوسف بن يعقوب عليه السلام يرفض الشهوة الحرام، وهو في عنفوان شبابه، وقوة رجولته، وهي التي سعت إليه، ولم يسعَ إليها؛ فهو يقول للمرأة التي هو في بيتها، والتي تملك أمره، والتي راودته عن نفسه بالتصريح لا بالتلميح "وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف: 23).
وحين لم يفلح معه الإغراء، جربت معه التهديد، فمن لم يثنه الوعد فربما ألانه الوعيد، فقالت أمام النسوة: "وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ" (يوسف: 32).
فما كان من هذا الشاب المؤمن إلا أن لاذ بالركن الركين، والحصن الحصين، لاذ بربه، قائلا: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف: 33).
مصدر للسكينة:
والإيمان بعد ذلك قوة تزرع في النفس السكينة، وفي القلب الأمن والطمأنينة، وهما ينبوع السعادة الحقيقية التي تنبع من الداخل، ولا تستجلب من الخارج.
يقول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ" (الفتح: 4).
يحدثنا القرآن عن إبراهيم؛ إذ حاجه قومه وجادلوه، وخوفوه من آلهتهم أن تصيبه بسوء! فقال: "أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" (الأنعام: 80 - 82).
ومعنى لم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ أي لم يخلطوا توحيدهم بشرك، فهم لا يدينون إلا لله، ولا ينحنون إلا لله، ولا يرجون أو يخافون إلا الله.
وهذا التوحيد الخالص هو الذي وهبهم الأمن النفسي الذي حرمه غيرهم، ممن يخافون من كل شيء، حتى من الأوهام. كما هو شأن أهل الشرك الذين قال الله فيهم: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا" (آل عمران: 151).
ومن هنا نجد المؤمن كالطود الأشم، تضطرب الدنيا من حوله، وتثور العواصف، وتزمجر الرعود، وتبرق البروق، وتنقلع الأشجار، وتفيض الأنهار، وتعلو أمواج البحار، وهو هو؛ ثابت لا يتزحزح، راسخ لا يتأرجح، فقد وضع قدمه على باب الله، ووضع يده في يد الله، ووصل حباله بحبل الله تعالى؛ فبه يعتصم، ومنه يستمد، وإليه يتوجه، وعليه يتوكل "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم" (الأنفال: 49).
شعاره ما قاله الله لرسوله: "قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (سورة التوبة: 51).
لا تزيده الشدائد إلا إيمانًا واطمئنانًا، كالذهب الأصيل لا تزيده النار إلا صفاءً ولمعانًا. وهكذا وصف الله عز وجل المؤمنين من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، في أشد الأوقات حلكة وسوادًا، وأشد الأزمات حرجًا وقلقًا، كما في غزوة الأحزاب، حيث أحاط جيش المغيرين بالمدينة إحاطة الأمواج بالسفينة، وظن الناس بالله الظنون، وابتُليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدًا. هنا برز دور الإيمان يبعث الأمل، ويحيي الثقة، ويمنح القوة، كما نرى ذلك في وصف القرآن لجماعة المؤمنين "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" (سورة الأحزاب: 22).
ولا أستطيع أن أذكر هنا -ولو بالإيجاز- ثمار الإيمان القرآني، في النفس وفي الحياة. فقد كتبت في ذلك كتابًا كاملا هو "الإيمان والحياة"، بينت فيه أثر الإيمان في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، وأنه ضرورة للفرد ليسعد ويتزكى، وضرورة للمجتمع ليتماسك ويرقى.
المهم أن هذا الإيمان هو الإيمان الحق، وهو الذي جاء به كتاب الله، وفصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عرفه وعاشه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، وعرفه الربانيون من أبناء هذه الأمة، فعاشوا به في جنة روحية دخلوها في الدنيا قبل الآخرة، وأحسوا معه بسعادة قال فيها قائلهم: لو علم بقيمتها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف!
أما آفة مسلمي عصور الانحطاط، ومسلمي اليوم كذلك فهي غياب هذا الإيمان الإيجابي الذي لا يقوم شيء مقامه من علم ولا أدب ولا فلسفة ولا قانون.
أجل.. إن غياب المعاني الإيمانية الربانية التي تربط القلوب ببرد اليقين، وتنعش الأرواح بنسائم المحبة والشوق إلى الله، وتمدّ العزائم ببواعث الرجاء في رحمة الله تعالى والخشية من عذابه أبرز ثغرة في حياة الإنسان المسلم، تحتاج إلى أن تسد، فلجأ إلى رحاب التصوف، يحاول أن يجد فيه ضالته التي ينشدها والتي لم يجدها عند الذين أغرقوا الناس بفروع الفقه وخلافاته، ولا عند المجادلين في العقائد من علماء الكلام الذين شغلوا الناس عن الله جل جلاله بالجدل الحار الدائم حول أسمائه وصفاته سبحانه.
وإذا وجد المسلم صوفيًّا ملتزمًا بالكتاب والسنة، بعيدًا عن الشركيات في العقيدة، والبدع في العبادة، والخلل في السلوك؛ فهذا من حسن حظه، ومن فضل الله عليه.
ولكن الخطر يتمثل في المخرفين والمنحرفين من أدعياء التصوف، من الذين اتخذوه مرتزقًا وتجارة، أو من الذين لم يحسنوا فهم حقيقة التصوف؛ لأنهم لم يحسنوا فهم حقيقة الإسلام. وهؤلاء هم جلّ الموجودين على الساحة باسم التصوف، وما هم من التصوف في كثير ولا قليل[/size]. [/size]
منقول
من الناس من لا يكاد يهمه من الإسلام إلا الشكل لا الجوهر، والصورة لا الحقيقة؛ فأهم ما يعنى به في دينه: إعفاء اللحية وتطويلها، وتقصير الثوب، وحمل المسواك، ولصق القدم بالقدم في الصلاة، أو وضع اليدين في القيام عند الصدر أو فوق السرة، والشرب قاعدًا لا قائمًا، وتحريم جميع أنواع الغناء والموسيقى، وإيجاب لبس النقاب على المرأة، ونحو ذلك. وهذه كلها أمور تتعلق بالمظهر أكثر مما تتعلق بالجوهر، وكنت أود من إخوتي هؤلاء لو وجّهوا أكبر عنايتهم إلى الجوهر والروح في تعاليم الإسلام، بدل الشكل والمادة.
فالإسلام عقيدة: جوهرها التوحيد، وعبادة: جوهرها الإخلاص، ومعاملة: جوهرها الصدق، وخُلق: جوهره الرحمة، وتشريع: جوهره العدل، وعمل: جوهره الإتقان، وأدب: جوهره الذوق، وعلاقة: جوهرها الأخوة، وحضارة: جوهرها التوازن.
فمن ضيع التوحيد في العقيدة، والإخلاص في العبادة، والصدق في المعاملة، والرحمة في الخُلُق، والعدل في التشريع، والإتقان في العمل، والذوق في الأدب، والأخوة في العلاقة، والتوازن في الحضارة: فقد ضيع جوهر الإسلام، وإن تمسك بظواهر الرسوم والأشكال.
وليس هذا القول مجرد دعوى بلا دليل، بل الأدلة على هذا القول من القرآن والسنة كثيرة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم. ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذ اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه.
الإيمان بين المعرفة والتطبيق
يحسب بعض الناس أن الإيمان الذي ينجي الإنسان من النار، ويؤهله لدخول الجنة في الآخرة، ويجعله أهلا لولاية الله تعالى ونصرته ودفاعه في الدنيا مجرد معرفة ذهنية، كثيرًا ما يُحشى بها عقله. وبعبارة أدق: تخزن في ذاكرته في فترة الصبا ويلقنها تلقينًا أن الله تعالى واحد لا شريك له، وأنه سبحانه متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص، وأن له صفات عليا هي كذا وكذا.
وما زلت أذكر كيف كانوا يلقنوننا -ونحن في الكُتَّاب- العقيدة، على مذهب الأشاعرة المتأخرين، وهي: أن لله تعالى صفاتٍ عشرين هي: الوجود، والقدم، والبقاء، ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه تعالى بنفسه، والوحدانية، والعلم، والإرادة، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وكونه تعالى عالمًا، ومريدًا، وقادرًا، وحيًّا، وسميعًا، وبصيرًا، ومتكلّمًا.
وكنا نحفظ هذه الصفات بترتيبها هكذا، ولا نعرف من معناها شيئًا.
وبعد أن كبرت ووعيت حاولت أن أفهم الفرق بين العلم، وكونه تعالى عالمًا، والقدرة وكونه تعالى قادرًا... إلخ. ولم أستطع أن أفهم، ولم أجد من قدر على أن يفهمني، برغم أننا درسنا هذه الصفات في المراحل الابتدائية، والثانوية، والعالية، من الدراسة في الأزهر الشريف.
وأهم من ذلك أن هذه الدراسة للعقيدة لم تكن تلمس في روح الإنسان وترًا، أو تحرك له قلبًا، أو تحيي فيه ضميرًا. إنها دراسة جافة، خاوية من رحيق الإيمان الحق الذي يقوم عليه منهج القرآن في تكوين الإيمان، وفي تثبيت الإيمان.
وهو منهج يقوم على النظر والتفكر في آيات الله تعالى: في الأنفس، والآفاق: "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف: 185) "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ" (الذاريات: 20، 21) "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ" (آل عمران: 190).
وقد أعجبت بالمنهج السلفي؛ لعنايته بالرجوع إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة في إثبات العقيدة وتثبيتها، مرجحًا أساليب القرآن على أساليب فلسفة اليونان، حسب تعبير العلامة ابن الوزير اليماني.
كما أعجبني من هذا المنهج تركيزه على تحرير التوحيد من كل شوائب الشرك؛ أكبره وأصغره، جليه وخفيه، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وتجريد العبودية لله وحده.
ولكن الاتجاه السلفي المعاصر: غرق في خضم الجدل في مسائل العقيدة، وغدا شغله الشاغل، ما يتعلق بما سماه "آيات الصفات"، و"أحاديث الصفات"، والمراد بها الصفات الخبرية التي وقع النزاع بين السلف والخلف حول تأويلها أو عدمه. وكأنما هي لب العقيدة، وجوهر التوحيد.
ومأخذي على هذا الاتجاه -كما يلقّن الآن- أمران:
الأول: تركيزه على هذا الموضوع المختلف فيه، على حساب المتفق عليه، والذي هو الأصل في العقيدة من إثبات وجود الله تعالى، ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، وتجريد العبادة له وحده، ووصفه بكل كمال يليق به عز وجل، ونفي كل نقص عنه من الشريك والولد والنِّد والشبيه "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء" (الشورى: 11) "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد" (الإخلاص: 3، 4).
والواجب تدريس هذه الأشياء المختلف فيها، كما جاءت في القرآن والسنة، لا أن يُجمع بعضها مع بعض في سياق واحد، يعطي من الظلال ما لا يعطيه سياقها في مواقعها المتفرقة من الكتاب والسنة.
الثاني: أن هذا الاتجاه وقع فيما وقع فيه الاتجاه العقلاني الأشعري الآخر، من اعتبار الإيمان مسألة معرفية ذهنية، وبعبارة أخرى: استيعاب عبارات مرصوصة، وحفظ جمل ومصطلحات مصبوبة في قوالب جامدة.
فمن حفظ هذه العبارات أو المصطلحات فقد سلمت عقيدته، وصح إيمانه، وتحرر توحيده من الشركيات والكفريات.
إيمان القرآن والسنة
إن إيمان القرآن والسنة شيء آخر. إنه نور يضيء كل جوانب النفس، ينير العقل، وينعش الوجدان، ويحرك المشاعر، ويحفز الإرادة. إنه قوة هادية، وقوة محركة، وقوة ضابطة، وقوة مطمئنة.
الإيمان قوة هادية:
هو قوة هادية؛ لأنه يحدد للإنسان وجهته، ويعرفه غايته ومنهاجه، فيحيا على نور، ويمضي على بصيرة.
"وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه" (سورة التغابن: 11) "وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم" (سورة آل عمران: 101) " أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا" (سورة الأنعام: 122).
هذه القوة هي التي جعلت إبراهيم الخليل عليه السلام يرفض ربوبية الكواكب والقمر والشمس؛ إذ يقول: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الأنعام: 79).
قوة حافزة:
وهو قوة محركة، تحفز الإنسان إلى العطاء والبناء، وعمل الصالحات، واستباق الخيرات؛ ولذا قرن القرآن الإيمان بالعمل في نحو تسعين موضعًا؛ ولهذا قال السلف: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وحين قال اليهود والنصارى: "لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى" رد عليهم القرآن بقوله: "وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (سورة البقرة: 111، 112).
فهذا هو البرهان على صدق الإيمان؛ إسلام الوجه لله مع إحسان العمل.
والقرآن يجسد الإيمان في أخلاق ومشاعر وأعمال، لا في جمل وعبارات فقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" (سورة الأنفال: 2 - 4).
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (سورة الحجرات: 15).
يؤكد ذلك أحاديث الرسول الكريم التي جعلت الإيمان بضعًا وستين، أو بضعًا وسبعين شعبة، ألفت فيها كتب جامعة، لبيانها وإحصائها وشرحها.
وفي الصحيحين: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان".
الإيمان هو الذي جعل إبراهيم الخليل عليه السلام يقدم على ذبح ولده وفلذة كبده طاعة لله، وجعل ابنه الفتى المترعرع، يقول لأبيه وقد قال له: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: 102).
قوة ضابطة:
والإيمان كما أنه قوة دافعة إلى فعل الخير هو كذلك قوة ضابطة تزع صاحبها عن الشر، وتلجمه بلجام التقوى، وتردعه عن الإثم، وعن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
الإيمان هو الذي يضع نصب عيني المؤمن دائمًا رقابة الله تعالى، وحساب الآخرة، وعقيدة الثواب والعقاب، والجنة والنار، وبذلك يكون هو رقيبًا على نفسه، يشارطها قبل العمل، ويحاسبها بعد العمل، ويلومها عند التقصير، وقد يعاقبها بالتقريع والتأنيب، وبغيرهما من وسائل التأديب. كما هو شأن "النفس اللوامة".
الإيمان هو الذي جعل ابن آدم الخيّر يقول لأخيه الشرير: "لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (المائدة: 28).
الإيمان هو الذي جعل يوسف بن يعقوب عليه السلام يرفض الشهوة الحرام، وهو في عنفوان شبابه، وقوة رجولته، وهي التي سعت إليه، ولم يسعَ إليها؛ فهو يقول للمرأة التي هو في بيتها، والتي تملك أمره، والتي راودته عن نفسه بالتصريح لا بالتلميح "وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف: 23).
وحين لم يفلح معه الإغراء، جربت معه التهديد، فمن لم يثنه الوعد فربما ألانه الوعيد، فقالت أمام النسوة: "وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ" (يوسف: 32).
فما كان من هذا الشاب المؤمن إلا أن لاذ بالركن الركين، والحصن الحصين، لاذ بربه، قائلا: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف: 33).
مصدر للسكينة:
والإيمان بعد ذلك قوة تزرع في النفس السكينة، وفي القلب الأمن والطمأنينة، وهما ينبوع السعادة الحقيقية التي تنبع من الداخل، ولا تستجلب من الخارج.
يقول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ" (الفتح: 4).
يحدثنا القرآن عن إبراهيم؛ إذ حاجه قومه وجادلوه، وخوفوه من آلهتهم أن تصيبه بسوء! فقال: "أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" (الأنعام: 80 - 82).
ومعنى لم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ أي لم يخلطوا توحيدهم بشرك، فهم لا يدينون إلا لله، ولا ينحنون إلا لله، ولا يرجون أو يخافون إلا الله.
وهذا التوحيد الخالص هو الذي وهبهم الأمن النفسي الذي حرمه غيرهم، ممن يخافون من كل شيء، حتى من الأوهام. كما هو شأن أهل الشرك الذين قال الله فيهم: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا" (آل عمران: 151).
ومن هنا نجد المؤمن كالطود الأشم، تضطرب الدنيا من حوله، وتثور العواصف، وتزمجر الرعود، وتبرق البروق، وتنقلع الأشجار، وتفيض الأنهار، وتعلو أمواج البحار، وهو هو؛ ثابت لا يتزحزح، راسخ لا يتأرجح، فقد وضع قدمه على باب الله، ووضع يده في يد الله، ووصل حباله بحبل الله تعالى؛ فبه يعتصم، ومنه يستمد، وإليه يتوجه، وعليه يتوكل "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم" (الأنفال: 49).
شعاره ما قاله الله لرسوله: "قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (سورة التوبة: 51).
لا تزيده الشدائد إلا إيمانًا واطمئنانًا، كالذهب الأصيل لا تزيده النار إلا صفاءً ولمعانًا. وهكذا وصف الله عز وجل المؤمنين من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، في أشد الأوقات حلكة وسوادًا، وأشد الأزمات حرجًا وقلقًا، كما في غزوة الأحزاب، حيث أحاط جيش المغيرين بالمدينة إحاطة الأمواج بالسفينة، وظن الناس بالله الظنون، وابتُليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدًا. هنا برز دور الإيمان يبعث الأمل، ويحيي الثقة، ويمنح القوة، كما نرى ذلك في وصف القرآن لجماعة المؤمنين "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" (سورة الأحزاب: 22).
ولا أستطيع أن أذكر هنا -ولو بالإيجاز- ثمار الإيمان القرآني، في النفس وفي الحياة. فقد كتبت في ذلك كتابًا كاملا هو "الإيمان والحياة"، بينت فيه أثر الإيمان في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، وأنه ضرورة للفرد ليسعد ويتزكى، وضرورة للمجتمع ليتماسك ويرقى.
المهم أن هذا الإيمان هو الإيمان الحق، وهو الذي جاء به كتاب الله، وفصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عرفه وعاشه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، وعرفه الربانيون من أبناء هذه الأمة، فعاشوا به في جنة روحية دخلوها في الدنيا قبل الآخرة، وأحسوا معه بسعادة قال فيها قائلهم: لو علم بقيمتها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف!
أما آفة مسلمي عصور الانحطاط، ومسلمي اليوم كذلك فهي غياب هذا الإيمان الإيجابي الذي لا يقوم شيء مقامه من علم ولا أدب ولا فلسفة ولا قانون.
أجل.. إن غياب المعاني الإيمانية الربانية التي تربط القلوب ببرد اليقين، وتنعش الأرواح بنسائم المحبة والشوق إلى الله، وتمدّ العزائم ببواعث الرجاء في رحمة الله تعالى والخشية من عذابه أبرز ثغرة في حياة الإنسان المسلم، تحتاج إلى أن تسد، فلجأ إلى رحاب التصوف، يحاول أن يجد فيه ضالته التي ينشدها والتي لم يجدها عند الذين أغرقوا الناس بفروع الفقه وخلافاته، ولا عند المجادلين في العقائد من علماء الكلام الذين شغلوا الناس عن الله جل جلاله بالجدل الحار الدائم حول أسمائه وصفاته سبحانه.
وإذا وجد المسلم صوفيًّا ملتزمًا بالكتاب والسنة، بعيدًا عن الشركيات في العقيدة، والبدع في العبادة، والخلل في السلوك؛ فهذا من حسن حظه، ومن فضل الله عليه.
ولكن الخطر يتمثل في المخرفين والمنحرفين من أدعياء التصوف، من الذين اتخذوه مرتزقًا وتجارة، أو من الذين لم يحسنوا فهم حقيقة التصوف؛ لأنهم لم يحسنوا فهم حقيقة الإسلام. وهؤلاء هم جلّ الموجودين على الساحة باسم التصوف، وما هم من التصوف في كثير ولا قليل[/size]. [/size]
منقول
الله ولى التوفيق