التحكيم في العقود الدولية للانشاءات
التحكيم في العقود الدولية للانشاءات مع بعض احكام التحكيم الدولية المتعلقة بها
(1 تتميز أعمال التشييد والبناء بأن تنفيذها يستغرق مدة طويلة ، وتحتاج إلى أكثر من عقد ، (وقد يتم ذلك فى صورة عقود منفصلة ، أو سلسلة من العقود ، أو مجموعة من العقود) بين أكثر من طرف محلى وأجنبى وأكثـر من تخصص فنى ، وتخصص لها رؤوس أموال طائلة ، وتشارك العديد من المؤسسات المالية الوطنية
والدولية فى تمويلها ، الأمر الذى يستلزم تحديد العلاقة بين العملة الوطنية والأجنبية فى وقت نعلم جيداً إلى أى مدى ، وبأى سرعة ، يمكن أن تتغير العلاقة بين العملتين.
(2) وبالبناء على ما تقدم ، فإن العقد الدولى للإنشاءات يمكن تعريفه بأنه : العقد الذى يبرم عادة فى شكل شروط عامة أو عقد نموذجى بين مختلفى الجنسية أو متحديها ، إذا كان مكان ابرامه أو أعمال تنفيذه أو مكان وجود محله ، يتعلق بأكثر من نظام قانونى ، أو كان بصدد علاقة دولية تقتضى تبادل الأموال أو الخدمات أو السلع أو أكثر( 1).
(3) ونظراً للتطور السريع فى هذه العقود فقد اتسعت رقعة الفراغ التشريعى ، ولذلك تدخلت الهيئـات والتنظيمات المهنية وأعدت عقوداً نموذجية تحقق التوازن والتنسيق بين اطرافها . ومن أمثلة ذلك: نظام عقود الاتحاد الدولى للمهندسين الاستشاريين Federation International de Engineers-Conseils (FIDIC) ، ونظام اتحاد المهندسين الأمريكيين US Corps Engineers ، والعقد الدولى الذى أعده المعهد الملكى للهندسة المدنية RIBA ، وعقد الفيبيت FIEEFITP الذى أعدته المؤسسة الدولية للمشروعات الأوروبيـة للمبانى والأشـغال ووافقت على هـذه الشروط أربعين دولة فى مختلف دول العالم.
(4)والجدير بالذكر أن الفيديك أصدر عدد من العقود ، كل منها صدر فى كتاب تميز بلون معين ، من ذلك ، الكتاب الأحمر ، وهو خاص لعقد مقاولات أعمال الهندسة المدنية ، وصدر فى طبعات عدة ، كل طبعة تحتوى على تعديل فى بعض مواده يتفق وتطور العصر ، الأول بدأ عام 1977 ، والأخير فى عام 1996 ، وكذلك الكتاب البرتقالى الخاص بعقد التصميم والتشييد وتسليم المفتاح - وذلك فى عام 1995 ، والكتاب الأخضر الخاص بالعقد المختصر (المباشر) ، والكتاب الأصفر الصادر فى عام 1998 الخاص بشروط عقد مقاولات الأعمال الميكانيكية والكهربائية شاملة أعمال التركيبات بالموقع ، والكتاب الأبيض ، الخاص بعقد العميل والاستشارى والصادر فى 1991( 3) .
(5)ومن الجدير بالاشـارة أن العقد الدولى للانشاء قد يتم من خلال نظام التعاقد المعروف باسـم نظام (البوت BOT) - ويقصد بهذا النظام أن يتولى مستثمر معين من القطاع الخاص بعـد الترخيص له بذلك من الدولة أو الجهة الحكومية المختصة تشـييد وبناء مشـروع معين من مشروعات البنية الأساسية مثل انشاء (مطار ، أو طريق ، أو محطة كهرباء) وهذا من حسابه الخاص ، على أن يتولى ادارة المشروع بعد بناءه لمدة معينة تتراوح عادة من 30 : 50 سـنة وخلال هذه المدة التى يتولى فيها المستثمر تشغيل المشروع يحصل على تكاليفه التى تكبدها ، وأرباحه من خلال العوائد والرسوم التى يؤديها مستخدموا هذا المشروع بعناصره المختلفة إلى الدولة( 4).
(6)وهذا النظـام يمر بمراحل متعددة ، الأولى ابرام اتفاق الامتياز ، بموجبه يتم الحصول على الترخيص ثم الثانية الانشاء والتشييد ، وتتم بمقتضى عقد مقاولة ، عادة يأخذ شكل عقد تسليم المفتاح ، وهذا العقد هو أحد نماذج عقود الفيديك ، والواردة بالكتاب البرتقالى الصادر فى عام 1995 ، ثم الثالثة الإدارة والتشغيل ويثير مشكلات اقتصادية وقانونية كثيرة ثم مرحلة النقل والتحويل.
(7)ويستخدم تعبير الـ BOT كما ذكر الاستاذ الدكتور / محمد أبو العينين للدلالة على مجموعة من النظم مثل:
1-البناء والتشغيل ونقل الملكية BOT< >
2-البناء والتملك والتشغيل ونقل الملكية BOOT< >
3-البناء والتأجير والتشغيل ونقل الملكية BOLT< >
4-البناء والتشغيل والامتلاك BOO< >
5-البناء والاستثمار ونقل الملكية BRT< >
6-البناء ونقل الملكية والتشغيل BTO< >
7-البناء والتأجير ونقل الملكية BLT< >
8- التحديث والتشغيل ونقل الملكية MOT< >
9- تحديد تملك وتشغيل ROO< >
10- تحديد تملك ونقل الملكية ROT< >
11- البناء والتشغيل وتجديد الامتياز BOR< >
12- التصميم والبناء والتمويل والتشغيل DBFO< >
( وتتميز العقود الدولية للانشاءات التى تبرم فى اطـار نظـام البوت بأنها تتصل بمرفق عام ، ومن ثم يعد عقد من عقود الاشغال العامة وتخضع لأحكامه ، وانها تأخذ شكل عقود تسليم المفتـاح ، فيكون المقال مسئولاً عن التصميم والتنفيـذ والتشغيل إلى جانب عملية نقل التكنولوجيا ، كما أن هذا العقد مرتبط ومتوقف على عقود أخـرى مثل عقود القرض واتفاق الامتياز ، ويتميز أيضاً بضخامة المخاطر الناتجة عن عيـوب التنفيذ ، وعـادة يتم تنفيذها عن طريق كونسرتيوم .
(9)وابرام عقد البوت (BOT) يجد سنده الدستورى فى المادة 123 من الدستور التى تنص على ، ما يأتى : (( يحدد القانون القواعد والاجراءات الخاصة بمنح الالتزامات المتعلقة باســتغلال موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة ، كما يبين أحوال التصرف بالمجـان فى العقـارات المملوكة للدولة والنزول عن أموالها المنقولة والقواعد والاجراءات المنظمة لذلك )) فضلاً عن التشريعات الخاصة الأخرى.
(10)ويثير عقود البوت بصفة عامة العديد من المشكلات سواء ما تعلق منها بتنفيذ المشروع طبقاً للمواصفات المتفق عليها فى عقد الانشـاء والتصميم أو عـدم التسليم فى الموعد المحدد أو تلك الخاصة بالتمويل ، أو الإدارة ومنها ما يتعلق بمخاطر البيئية ، أو التغيرات السياسية والتشريعية لتنفيذ القوانين والضرائب والرسوم الجمركية ، أو عدم سلامة استخدام تصاريح نقل التكنولوجيا ، أو السياسات العمالية ، أو استخدام التعريفة المسعرة لاستخدام المرفق .
(11)من الجدير بالإشارة أن جميع نماذج عقود الفيديك تتضمن بند يتناول أسلوب حل المنازعات . وكانت جميع هذه العقود والتى صدرت فى الفترة من 1957 وحتى 1994 تحيل النزاع أولاً إلى المهندس للفصل فيه مع النص على استيفاء اجراءات ومدد زمنية محددة ، إلى التحكيم أمام غرفة التجارة الدولية فى باريس وطبقاً للقواعد المعمول بها أمامها وفى عـام 1995 أصـدر الفيديـك عقـد التصميم والتشييد وتسليم المفتاح الذى عرف باسم (( الكتاب البرتقالى )) اتبع فيه اسلوب حل المنازعات عن طريق تعيين مجلس من فرد أو ثلاث أفراد (أو أكثر إذا رأى الطرفان ذلك) عند بدء المشروع واطلق عليه اسم (مجلس فض المنازعات) حتى لو اقتصر على فرد واحد , ويتم تعيينه باتفاق رب العمل والمقـاول كما يتم سداد أجر ونفقات هذا المجلس مناصفة بينهما . ويظل المجلس على صلة مستمرة بالأعمال الجارية ، ويلجأ إليه فى حالة نشوب أى نزاع ليصدر قراراً بشأن تسويته . ويكون قرار هذا المجلس مبدئياً يمكن لأى من الأطراف عدم قبوله والاعتراض عليه ، خلال فترة زمنية محددة ، أمام نفس المجلس الذى عليه فى هذه الحالة أن يعدله أو يغيره أو يثبته . فإذا استمر الطرف الذى أعلن عدم رضائه عن القرار فى رفضه أجازت له نصوص عقد الفيديك اللجوء إلى التحكيم باتباع اجراءات محددة.
ونص الفيديك على أن يكون التحكيم أمام غرفة التجارة الدولية فى باريس وإن كان قد أجاز للأطراف اللجوء إلى أى مركز تحكيم آخر يتفقان على اللجوء إليه وطبقاً لقواعده , وفى عام 1996 أصدر الفيديك ملحقاً مستقلاً لكل من عقديه المعروفين باسم (الكتاب الأحمر) و (الكتاب الأصفر) اتبع فيهما نفس الأسلوب الذى اتبعه فى الكتاب البرتقالى وعندما أصدر الفيديك فى سبتمبر 1998 مجموعة العقود الجديدة (أربعة عقود) اتبع فيها نفس الأسلوب لتسوية المنازعات( 6).
(12) ولكن جواز التحكيم فى العقود الدولية للإنشاءات مشروط بألا يتعارض مع النظام العام الداخلى أو الدولى (12-أ)وتعبير ”النظام العام الداخلى” ينصرف إلى الشروط والقواعد الآمرة التى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها ، المستمدة من قانون بلد التنفيذ أو قانون المكان الذى ينفذ فيه المشروع . ومثال ذلك ما نصت عليه المادة (653) من القانون المدنى المصرى ، والمتعلقة بالمسئولية الخاصة للمهندس المعمارى والمقاول بضمان المبانى والمنشآت ، وقد نصت المادة المذكور على أن يكون باطلاً كل شرط يقصد به اعفاء المهندس المعمارى أو المقاول من الضمان أو الحد منه . وينصرف الضمان هنا إلى ضمان المبانى خلال عشر سنوات ضد خطر التهدم الكلى ، أو ما يوجد فى المبانى والمنشآت من عيوب يترتب عليها تهديد سلامة البناء(7 ).
ومن الجدير بالملاحظة أن البطلان محل الشرط لا العقد ، وهو بطلان مطلق لتعلقه بالنظام العام ، فلا يصححه اتفاق ولا تذهب بعواره إجازة . ومع ذلك يجوز للأطراف الاتفاق على النزول بمدة الضمان إلى المدة التى يزمعون بقاء البناء أو المنشأ الثابت قائماً خلالها ، فتكون هذه المدة الاتفاقية هى مدة الضمان التى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها .
(12-ب)أما من حيث مخالفة العقد للنظام الدولى ، فهذه القواعد تعللت بها محكمة النقض الفرنسية ، والمحاكم الانجليزية ، ومحاكم التحكيم الدولية ، عندما رفضت بعض شروط عقود المقاولات بحجة أنها تعارض مبادئ العدالة العالمية ، والتى لها قيمة دولية مطلقة ، أو أنها لا تتفق مع العرف والممارسة الدولية ، أو أنها تتعارض مع المبادئ المستمدة من القوانين الوطنية للدول المتحضرة ، أو أنها تتعارض مع النظرة السليمة أو أنها غير محددة ولا يمكن تصنيفها ، كما جاء فى حكم محكمة التحكيم برئاسة اللوردAsquith برفض تطبيق الشريعة الاسلامية على بعض المعاملات الدولية(8 ).
(13) ويثور الجدل حول أثر الرشوة على صحة العقد الدولى للإنشاء ، وعلى شرط التحكيم الذى تتضمنه ، والواقع أن أحكام هيئات التحكيم تضاربت فى هذا الخصوص:-
(13-أ)الاتجاه الأول : يذهب إلى أن رشوة أى مساهم فى إبرام العقد الدولى للإنشاءات يترتب عليه بطلان التحكيم والعقد محل التحكيم ، ومن ذلك ما انتهى إليه المحكم السويدى Legregren (9 ) فى القضية المتمثلة فى أن شخصاً أرجنتينى الجنسية اتفق مع شركة بريطانية على التدخل لدى المسئولين الأرجنتينيين لتسهيل حصول الشركة البريطانية على عقد إنشاءات باستغلال قرابته لأولئك المسئولين مقابل الحصول على (عمولة) . وحدث أن حصلت الشركة البريطانية على العقد الموعود بعد فترة من الزمن ، واتفق على اللجوء إلى التحكيم وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية للنظر فى ادعائه استحقاق (العمولة) لجهوده السابقة فى سبيل ذلك . ورغم أن الطرفين أبديا مباشرة دفاعهما الموضوعى أمام المحكم المنفرد الذى عينته الغرفة وهو القاضى السويدى Legregren لإثبات ما إذا كان المدعى يستحق (العمولة) أو لا يستحقها بحسب الظروف التى أحاطت بالصفقة إلا أن المحكم أثار - من تلقاء نفسه - سؤالا مبدئياً وهو : ما إذا كان الاتفاق بين المدعى الذى تبين أن دوره مجرد (وسيط بالنفوذ) traficd'influnce وبين الشركة البريطانية المدعى عليها يعد صحيحاً أم باطلاً لمخالفته للنظام العام . ولم يقتصر على بحث أسباب عدم مشروعية مثل ذلك النشاط فى القوانين الوطنية بما فيها القانون الفرنسى (قانون مقر التحكيم) والقانون الأرجنتينى (قانون محل النشاط) ، وإنما استندت كذلك إلى النظام العام الدولى بالمعنى الكامل للفظ الدولية . وانتهى فى هذا الصدد إلى تقرير أنه وفقاً لمبادئ القانون الدولى لا يمكن للقضاء عموماً ، سواء أكان عن طريق محاكم الدول أو بواسطة محكمين ، أن يحمى الأوضاع التى من ذلك القبيل .
وباستعراض الواقعات المطروحة فى ظل ذلك المبدأ القانونى ، خلص المحكم السويدى إلى أن الأدلة الثابتة لديه توضح أن المبالغ الموعودة كان جانب منها على الأقل سيستخدم فى تقديم رشاوى للمسئولين الأرجنتينيين لتسهيل حصول الشركة البريطانية على الصفقة . وبعد أن أوضح المحكم السويدى مخاطر مثل هذا السلوك على إدارة البلاد وخدمة قضايا التنمية ، قضى بعدم اختصاصه بنظر النزاع ولم يقبل أن ينظر الموضوع ويحكم برفض الدعوى . ويعتبر السند الأساسى لما انتهى اليه المحكم هو أن الأفراد الذين يشاركون فى نشاط من ذلك القبيل يجب أن يوقنوا أنهم بعملهم هذا قد اسقطوا أى حق لهم فى الحصول على معاونة أجهزة القضاء ، سواء أكانت محاكم وطنية أو هيئات تحكيم للفصل فى منازعاتهم.
(12-ب)والاتجاه الثانى : يرى أنه لا أثر للرشوة على صحة اتفاق التحكيم وعلى اختصاص المحكم بنظر المنازعات المتعلقة بالعقود الدولية للإنشاءات ، وهو ما انتهى إليه المحكم النمساوى( 10) فى قضية تتلخص وقائعها فى أن شركة مقاولات يونانية اتفقت مع مجموعة من أشخاص من إحدى دول الشرق الأوسط الإسلامية على رأسهم موظف كبير حينذاك على مبلغ من المال يتمثل فى نسبة مئوية من قيمة الأعمال مقابل تسهيل حصولهم على تعاقد حكومى عن طريق الممارسة . ونص فى الاتفاق على التحكيم فى باريس وفقا لقواعد غرفة التجارة الدولية . وتم الحصول على العقد الموعود ودفعت بالفعل النسبة المتفق عليها من المستخلصات الأولى ، على أنه نظراً لقيام ثورة فى البلاد وتوقف عمل الشركة اليونانية مع غيرها من الشركات الأجنبية ، لم تقبض الشركة دفعات جديدة ، وبالتالى لم تقم بسداد المبالغ المتبقية حسب القيمة للمطالبة بباقى مستحقاتها ، وتمسكت الشركة المدعى عليها بأن خسائر جسيمة قد لحقتها ولم تقبض أية مبالغ من الحكومة الثورية يمكن أن تسدد منها (العمولات) المتفق عليها , بدأ المحكم النمساوى حكمه بإبراز أن الدولة المعنية كان قد استشرى فيها الفساد إلى درجة لم يعد معها من المجدى محاربته بالتشريعات التى تعاقب عليه جنائياً ، وبعد أن استعرض القواعد التى تحكم بطلان العقود التى تتضمن رشوة الاتجار بالنفوذ وفقاً لقانون الدولة التى تم فيها النشاط وفى القانون الفرنسى بوصفه قانون مقر التحكيم ، خلص المحكم النمساوى هو الآخر فى مجاراة المحكم السويدى فى وجوب النظر إلى المسألة المطروحة من زاوية تسمو على القوانين الوطنية . ولكن المحكم النمساوى لم ينته إلى تقرير عدم الاختصاص أسوة بالمحكم السويدى ، وإنما قضى باختصاصه بنظر القضية وحكم برفض الدعوى موضوعياً .
(14) والواقع أن مسألة الرشوة تعتبر مسألة أولية ، تخرج عن اختصاص المحكم ، ويعهد بالفصل فيها إلى القاضى الجنائى ، ولا أثر لها على صحة العقد . ومع ذلك ، فإن الأمر يتوقف على القانون الواجب التطبيق ، فإذا كان القانون المصرى - مثلاً - هو القانون الواجب التطبيق ، فإن العقد يمكن ابطاله إعمالا لنص المادة (27) من القانون رقم 9 لسنة 1982 ، أو تطبيقاً للقاعدة العامة بأن الغش يبطل التصرفات ، ولكن ينبغى الأخذ فى الاعتبار التفرقة بين النظام العام الداخلى والنظام العام الدولى.
أولاً :المشكلات العملية التى يثيرها التحكيم فى عقود البوت BOT فى المرحلة السابقة على التعاقد
(15)أولاً : فى مرحلة التفاوض بشأن ابرام العقد الدولى للإنشاءات : تعد من الوسائل التى تستهل عملية التقاء إرادات الأطراف ، لأن التفاوض عبارة عن الأسلوب الذى يمكن عن طريقـه التوصل إلى التوفيق بين المصالح المتعارضة للمتفاوض بالتراضى ، أو بقبول الحلول الوسط ، كل ذلك على أساس من حسن النية والرغبة الصادقة فى التوصل إلى اتفاق .
والمفاوضات فى العقود الدولية للإنشاءات تبدأ - عادة - بمفاوضات ذات طابع فنى ، حيث يتعـرف كل طـرف على احتياجـات الطرف الآخر ، والقدرة على الاستجابة لها ، فإذا ما اسفرت المفاوضات عن تقارب وجهات النظر ، تبدأ المفاوضات القانونية لتحديد شروط التعاقد ، وأحكامه ، ومن ذلك : الضمانات القانونية ، ميعاد التنفيذ ، الضمانات البنكية ، وسائل التمويل المالى للمشروع ، والغرامات المالية ومقدارها وحدودها القصوى ... الخ .
والواقع العملى يؤكد على ضعف دور الخبير القانونى ، أثناء مرحلة التفاوض السابقة على ابرام العقد الدولى للانشاءات ، ويعد هذا - بحق - من أهم أسباب كثرة المنازعات بهذه العقود ، ويعتبر من أهم العوامل فى عدم فاعلية التحكيم فى هذا المجال(11 ) .
ويثور فى هذا الخصوص تساؤلين : الأول ، هو ما مدى التزام اطراف العقد الدولى للانشاءات بشرط التحكيم الوارد فى الأوراق التى تم تبادلها فى المرحلة السابقة على التعاقد والموقعة من طرف أو أكثر من الأطراف المتفاوضة ، فى حين أنه لم يرد بالعقد نتاج هذا التفاوض مثل هذا الشرط أو الاحالة إليه ؟ .. والثانى : طبيعة المسئولية عن قطع المفاوضات ؟ .
الواقع أن أوراق التفاوض لا حصر لها ، فيوجد ما يسمى بمذكرة التفاهم ، ورؤوس الاتفاق ، والاتفاق من حيث المبدأ ، وعهد الشرف ، وخطاب النوايا ، وخطاب الثقة وبروتوكول اتفاقى ، والاتفاق المرحلى ، والاتفاق على الاتفاق ، وخطاب التوصية ، والارساليات .
فالواقع - بالنسبة للسـؤال الأول - أن آراء الفقه والقضـاء تضاربت بشأن تبادل الأوراق السـابقة المتضمنة شرط التحكيم ، وتعرف هذه المشكلة بمعركة الاستمارات ، فبعضها اعتبرت المفاوض وكيلاً ، وانتهت إلى عدم امتداد شرط التحكيم اليه ، والبعض الآخر قضت بعكس ذلك ، والزمت المفاوض بشرط التحكيم تأسيسا على الارادة الظاهرة .
وهذا القضاء يمكن استخلاصه من حكم تحكيم فى اطار غرفة التجارة الدولية رقم 2291 حيث جاء فيه أن الأطراف لم يولوا عناية فى صياغة العقد من ناحية الشكل ، وأنه يمكن تفسير ارادتهم وارتباطهم انطلاقاً من المحررات التى صدرت وفى ضوء القواعد العامة للقانون والعدالة التى يجب أن تحكم المعاملات التجارية الدولية(12 ) .
وبالنسـبة للتساؤل الثانى ، فالراجح فى قضاء التحكيم أن المسئولية عن قطع المفاوضات لا تعتبر عقدية إلا فى حالة وجود اتفاق على التفاوض بفرض على الأطراف التزاماً عقدياً بمواصلة التفاوض بهدف ابرام العقد النهائى ، وهو ما يمكن استشفافه من حكم تحكيم Norsolor الصادر فى اطار غرفة التجارة الدولية تحت رقم 2121 فى 29/10/1979(13 ) ، والذى أثار موجة من الدعاوى أمام المحاكم الوطنية فى كلا من فرنسا والنمسا .
ولم ينكر حكم التحكيم المذكور على اتفاق المبادئ موضوع النزاع كل أثر قانونى ، حيث إنه يرتب - وفقاً لرأى محكمة التحكيم - التزاماً عقدياً بالتفاوض الذى يجب تنفيذه بحسن نية . وقد توصل جانب من الفقه من خلال بحثه لمرحلة المفاوضات قبل العقدية وطبيعة المسئولية المتعلقة بها فى ضوء أحكام التحكيم التجارى الدولى ، رغم قلتها فى هذا الصدد ، إلى أن قضاء التحكيم التجارى الدولى يعتبر هذه المسئولية - على غرار غالبية القوانين الوطنية - مسئولية تقصيرية .
(16)ويثور التساؤل حول مدى امتداد شرط التحكيم إلى الأشخاص الذين أبرموا أو ساهموا فى ابرام العقد المتضمن شرط التحكيم ، واتجهت ارادتهم إلى الارتباط به .
من المسلم به أن اتفاق التحكيم لا ينصرف أثره إلى غير اطرافه ، على أنه (( يجب أن تتجه إرادة الأطراف الذين ساهموا فى ابرام العقد المتضمن شرط التحكيم إلى الارتباط به ، ويخضع تفسـير هذه الإرادة لسلطة المحكمين )) . ويتجه القضاء إلى الأخذ بمفهوم واسع الارتباط ، حيث أسس قضاءه فى بعض الحالات على فكرة الاعتقاد المشروع ، وفى بعض الحالات الأخرى على فكرة القبول الضمنى لشرط التحكيم .
ولكن البحث عن الإرادة الضمنية ليس بالأمر السهل وخاصة فى عقود الاستثمار المبرم بين الدول ، ومن ذلك العقود الدولية للانشاءات ، حيث يكمن خلف الارتباط بشرط التحكيم والرضا الضمنى به ، مسالة التنازل عن الحصانة القضائية ، ومن هنا يبدو واضحاً ومفهوماً تخبط القضاء فى قبول التنازل الضمنى ، وتفسير اتجاه الإرادة إلى الارتباط بشرط التحكيم .
واعمالاً للقاعدة السابقة ، فإنه تثور مشكلة تتمثل فى مدى التوافق أو التعارض بين مبدأ القوة الملزمة لاتفاق التحكيم ، والاستقلال القانونى للاشخاص الاعتبارية العامة عن الدولة ، فالدولة تتمتع - من ناحية - بصفة السيادة ، أى بمزايا السلطة العامة وما يتبعها من حصانة قضائية ، ومن ناحية أخرى ، تمارس اعمال التجارة الدولية ، مما من شأنه أن يضفى على موقفها درباً من الغموض ، وفى هذا المقام يثور التساؤل حول قيمة توقيعها على العقود التى تبرمها الهيئات العامة التابعة لها ، والتى تتضمن شرط تحكيم ، فما قيمة توقيعها ؟ .. هل يعنى اتجاه ارادتها إلى الارتباط بالعقد وما تضمنه من شرط تحكيم ، أم أن هذا التوقيع تم بمقتضى ما لها من سلطة وصاية ، وبالتالى لا ينتج هذا التوقيع أى أثر قانونى تجاهها . وهذا التفسير الآخر تبنته محكمة النقض الفرنسية فى قضية هضبة الأهرام
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
منقوووووول
التحكيم في العقود الدولية للانشاءات مع بعض احكام التحكيم الدولية المتعلقة بها
(1 تتميز أعمال التشييد والبناء بأن تنفيذها يستغرق مدة طويلة ، وتحتاج إلى أكثر من عقد ، (وقد يتم ذلك فى صورة عقود منفصلة ، أو سلسلة من العقود ، أو مجموعة من العقود) بين أكثر من طرف محلى وأجنبى وأكثـر من تخصص فنى ، وتخصص لها رؤوس أموال طائلة ، وتشارك العديد من المؤسسات المالية الوطنية
والدولية فى تمويلها ، الأمر الذى يستلزم تحديد العلاقة بين العملة الوطنية والأجنبية فى وقت نعلم جيداً إلى أى مدى ، وبأى سرعة ، يمكن أن تتغير العلاقة بين العملتين.
(2) وبالبناء على ما تقدم ، فإن العقد الدولى للإنشاءات يمكن تعريفه بأنه : العقد الذى يبرم عادة فى شكل شروط عامة أو عقد نموذجى بين مختلفى الجنسية أو متحديها ، إذا كان مكان ابرامه أو أعمال تنفيذه أو مكان وجود محله ، يتعلق بأكثر من نظام قانونى ، أو كان بصدد علاقة دولية تقتضى تبادل الأموال أو الخدمات أو السلع أو أكثر( 1).
(3) ونظراً للتطور السريع فى هذه العقود فقد اتسعت رقعة الفراغ التشريعى ، ولذلك تدخلت الهيئـات والتنظيمات المهنية وأعدت عقوداً نموذجية تحقق التوازن والتنسيق بين اطرافها . ومن أمثلة ذلك: نظام عقود الاتحاد الدولى للمهندسين الاستشاريين Federation International de Engineers-Conseils (FIDIC) ، ونظام اتحاد المهندسين الأمريكيين US Corps Engineers ، والعقد الدولى الذى أعده المعهد الملكى للهندسة المدنية RIBA ، وعقد الفيبيت FIEEFITP الذى أعدته المؤسسة الدولية للمشروعات الأوروبيـة للمبانى والأشـغال ووافقت على هـذه الشروط أربعين دولة فى مختلف دول العالم.
(4)والجدير بالذكر أن الفيديك أصدر عدد من العقود ، كل منها صدر فى كتاب تميز بلون معين ، من ذلك ، الكتاب الأحمر ، وهو خاص لعقد مقاولات أعمال الهندسة المدنية ، وصدر فى طبعات عدة ، كل طبعة تحتوى على تعديل فى بعض مواده يتفق وتطور العصر ، الأول بدأ عام 1977 ، والأخير فى عام 1996 ، وكذلك الكتاب البرتقالى الخاص بعقد التصميم والتشييد وتسليم المفتاح - وذلك فى عام 1995 ، والكتاب الأخضر الخاص بالعقد المختصر (المباشر) ، والكتاب الأصفر الصادر فى عام 1998 الخاص بشروط عقد مقاولات الأعمال الميكانيكية والكهربائية شاملة أعمال التركيبات بالموقع ، والكتاب الأبيض ، الخاص بعقد العميل والاستشارى والصادر فى 1991( 3) .
(5)ومن الجدير بالاشـارة أن العقد الدولى للانشاء قد يتم من خلال نظام التعاقد المعروف باسـم نظام (البوت BOT) - ويقصد بهذا النظام أن يتولى مستثمر معين من القطاع الخاص بعـد الترخيص له بذلك من الدولة أو الجهة الحكومية المختصة تشـييد وبناء مشـروع معين من مشروعات البنية الأساسية مثل انشاء (مطار ، أو طريق ، أو محطة كهرباء) وهذا من حسابه الخاص ، على أن يتولى ادارة المشروع بعد بناءه لمدة معينة تتراوح عادة من 30 : 50 سـنة وخلال هذه المدة التى يتولى فيها المستثمر تشغيل المشروع يحصل على تكاليفه التى تكبدها ، وأرباحه من خلال العوائد والرسوم التى يؤديها مستخدموا هذا المشروع بعناصره المختلفة إلى الدولة( 4).
(6)وهذا النظـام يمر بمراحل متعددة ، الأولى ابرام اتفاق الامتياز ، بموجبه يتم الحصول على الترخيص ثم الثانية الانشاء والتشييد ، وتتم بمقتضى عقد مقاولة ، عادة يأخذ شكل عقد تسليم المفتاح ، وهذا العقد هو أحد نماذج عقود الفيديك ، والواردة بالكتاب البرتقالى الصادر فى عام 1995 ، ثم الثالثة الإدارة والتشغيل ويثير مشكلات اقتصادية وقانونية كثيرة ثم مرحلة النقل والتحويل.
(7)ويستخدم تعبير الـ BOT كما ذكر الاستاذ الدكتور / محمد أبو العينين للدلالة على مجموعة من النظم مثل:
1-البناء والتشغيل ونقل الملكية BOT< >
2-البناء والتملك والتشغيل ونقل الملكية BOOT< >
3-البناء والتأجير والتشغيل ونقل الملكية BOLT< >
4-البناء والتشغيل والامتلاك BOO< >
5-البناء والاستثمار ونقل الملكية BRT< >
6-البناء ونقل الملكية والتشغيل BTO< >
7-البناء والتأجير ونقل الملكية BLT< >
8- التحديث والتشغيل ونقل الملكية MOT< >
9- تحديد تملك وتشغيل ROO< >
10- تحديد تملك ونقل الملكية ROT< >
11- البناء والتشغيل وتجديد الامتياز BOR< >
12- التصميم والبناء والتمويل والتشغيل DBFO< >
( وتتميز العقود الدولية للانشاءات التى تبرم فى اطـار نظـام البوت بأنها تتصل بمرفق عام ، ومن ثم يعد عقد من عقود الاشغال العامة وتخضع لأحكامه ، وانها تأخذ شكل عقود تسليم المفتـاح ، فيكون المقال مسئولاً عن التصميم والتنفيـذ والتشغيل إلى جانب عملية نقل التكنولوجيا ، كما أن هذا العقد مرتبط ومتوقف على عقود أخـرى مثل عقود القرض واتفاق الامتياز ، ويتميز أيضاً بضخامة المخاطر الناتجة عن عيـوب التنفيذ ، وعـادة يتم تنفيذها عن طريق كونسرتيوم .
(9)وابرام عقد البوت (BOT) يجد سنده الدستورى فى المادة 123 من الدستور التى تنص على ، ما يأتى : (( يحدد القانون القواعد والاجراءات الخاصة بمنح الالتزامات المتعلقة باســتغلال موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة ، كما يبين أحوال التصرف بالمجـان فى العقـارات المملوكة للدولة والنزول عن أموالها المنقولة والقواعد والاجراءات المنظمة لذلك )) فضلاً عن التشريعات الخاصة الأخرى.
(10)ويثير عقود البوت بصفة عامة العديد من المشكلات سواء ما تعلق منها بتنفيذ المشروع طبقاً للمواصفات المتفق عليها فى عقد الانشـاء والتصميم أو عـدم التسليم فى الموعد المحدد أو تلك الخاصة بالتمويل ، أو الإدارة ومنها ما يتعلق بمخاطر البيئية ، أو التغيرات السياسية والتشريعية لتنفيذ القوانين والضرائب والرسوم الجمركية ، أو عدم سلامة استخدام تصاريح نقل التكنولوجيا ، أو السياسات العمالية ، أو استخدام التعريفة المسعرة لاستخدام المرفق .
(11)من الجدير بالإشارة أن جميع نماذج عقود الفيديك تتضمن بند يتناول أسلوب حل المنازعات . وكانت جميع هذه العقود والتى صدرت فى الفترة من 1957 وحتى 1994 تحيل النزاع أولاً إلى المهندس للفصل فيه مع النص على استيفاء اجراءات ومدد زمنية محددة ، إلى التحكيم أمام غرفة التجارة الدولية فى باريس وطبقاً للقواعد المعمول بها أمامها وفى عـام 1995 أصـدر الفيديـك عقـد التصميم والتشييد وتسليم المفتاح الذى عرف باسم (( الكتاب البرتقالى )) اتبع فيه اسلوب حل المنازعات عن طريق تعيين مجلس من فرد أو ثلاث أفراد (أو أكثر إذا رأى الطرفان ذلك) عند بدء المشروع واطلق عليه اسم (مجلس فض المنازعات) حتى لو اقتصر على فرد واحد , ويتم تعيينه باتفاق رب العمل والمقـاول كما يتم سداد أجر ونفقات هذا المجلس مناصفة بينهما . ويظل المجلس على صلة مستمرة بالأعمال الجارية ، ويلجأ إليه فى حالة نشوب أى نزاع ليصدر قراراً بشأن تسويته . ويكون قرار هذا المجلس مبدئياً يمكن لأى من الأطراف عدم قبوله والاعتراض عليه ، خلال فترة زمنية محددة ، أمام نفس المجلس الذى عليه فى هذه الحالة أن يعدله أو يغيره أو يثبته . فإذا استمر الطرف الذى أعلن عدم رضائه عن القرار فى رفضه أجازت له نصوص عقد الفيديك اللجوء إلى التحكيم باتباع اجراءات محددة.
ونص الفيديك على أن يكون التحكيم أمام غرفة التجارة الدولية فى باريس وإن كان قد أجاز للأطراف اللجوء إلى أى مركز تحكيم آخر يتفقان على اللجوء إليه وطبقاً لقواعده , وفى عام 1996 أصدر الفيديك ملحقاً مستقلاً لكل من عقديه المعروفين باسم (الكتاب الأحمر) و (الكتاب الأصفر) اتبع فيهما نفس الأسلوب الذى اتبعه فى الكتاب البرتقالى وعندما أصدر الفيديك فى سبتمبر 1998 مجموعة العقود الجديدة (أربعة عقود) اتبع فيها نفس الأسلوب لتسوية المنازعات( 6).
(12) ولكن جواز التحكيم فى العقود الدولية للإنشاءات مشروط بألا يتعارض مع النظام العام الداخلى أو الدولى (12-أ)وتعبير ”النظام العام الداخلى” ينصرف إلى الشروط والقواعد الآمرة التى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها ، المستمدة من قانون بلد التنفيذ أو قانون المكان الذى ينفذ فيه المشروع . ومثال ذلك ما نصت عليه المادة (653) من القانون المدنى المصرى ، والمتعلقة بالمسئولية الخاصة للمهندس المعمارى والمقاول بضمان المبانى والمنشآت ، وقد نصت المادة المذكور على أن يكون باطلاً كل شرط يقصد به اعفاء المهندس المعمارى أو المقاول من الضمان أو الحد منه . وينصرف الضمان هنا إلى ضمان المبانى خلال عشر سنوات ضد خطر التهدم الكلى ، أو ما يوجد فى المبانى والمنشآت من عيوب يترتب عليها تهديد سلامة البناء(7 ).
ومن الجدير بالملاحظة أن البطلان محل الشرط لا العقد ، وهو بطلان مطلق لتعلقه بالنظام العام ، فلا يصححه اتفاق ولا تذهب بعواره إجازة . ومع ذلك يجوز للأطراف الاتفاق على النزول بمدة الضمان إلى المدة التى يزمعون بقاء البناء أو المنشأ الثابت قائماً خلالها ، فتكون هذه المدة الاتفاقية هى مدة الضمان التى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها .
(12-ب)أما من حيث مخالفة العقد للنظام الدولى ، فهذه القواعد تعللت بها محكمة النقض الفرنسية ، والمحاكم الانجليزية ، ومحاكم التحكيم الدولية ، عندما رفضت بعض شروط عقود المقاولات بحجة أنها تعارض مبادئ العدالة العالمية ، والتى لها قيمة دولية مطلقة ، أو أنها لا تتفق مع العرف والممارسة الدولية ، أو أنها تتعارض مع المبادئ المستمدة من القوانين الوطنية للدول المتحضرة ، أو أنها تتعارض مع النظرة السليمة أو أنها غير محددة ولا يمكن تصنيفها ، كما جاء فى حكم محكمة التحكيم برئاسة اللوردAsquith برفض تطبيق الشريعة الاسلامية على بعض المعاملات الدولية(8 ).
(13) ويثور الجدل حول أثر الرشوة على صحة العقد الدولى للإنشاء ، وعلى شرط التحكيم الذى تتضمنه ، والواقع أن أحكام هيئات التحكيم تضاربت فى هذا الخصوص:-
(13-أ)الاتجاه الأول : يذهب إلى أن رشوة أى مساهم فى إبرام العقد الدولى للإنشاءات يترتب عليه بطلان التحكيم والعقد محل التحكيم ، ومن ذلك ما انتهى إليه المحكم السويدى Legregren (9 ) فى القضية المتمثلة فى أن شخصاً أرجنتينى الجنسية اتفق مع شركة بريطانية على التدخل لدى المسئولين الأرجنتينيين لتسهيل حصول الشركة البريطانية على عقد إنشاءات باستغلال قرابته لأولئك المسئولين مقابل الحصول على (عمولة) . وحدث أن حصلت الشركة البريطانية على العقد الموعود بعد فترة من الزمن ، واتفق على اللجوء إلى التحكيم وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية للنظر فى ادعائه استحقاق (العمولة) لجهوده السابقة فى سبيل ذلك . ورغم أن الطرفين أبديا مباشرة دفاعهما الموضوعى أمام المحكم المنفرد الذى عينته الغرفة وهو القاضى السويدى Legregren لإثبات ما إذا كان المدعى يستحق (العمولة) أو لا يستحقها بحسب الظروف التى أحاطت بالصفقة إلا أن المحكم أثار - من تلقاء نفسه - سؤالا مبدئياً وهو : ما إذا كان الاتفاق بين المدعى الذى تبين أن دوره مجرد (وسيط بالنفوذ) traficd'influnce وبين الشركة البريطانية المدعى عليها يعد صحيحاً أم باطلاً لمخالفته للنظام العام . ولم يقتصر على بحث أسباب عدم مشروعية مثل ذلك النشاط فى القوانين الوطنية بما فيها القانون الفرنسى (قانون مقر التحكيم) والقانون الأرجنتينى (قانون محل النشاط) ، وإنما استندت كذلك إلى النظام العام الدولى بالمعنى الكامل للفظ الدولية . وانتهى فى هذا الصدد إلى تقرير أنه وفقاً لمبادئ القانون الدولى لا يمكن للقضاء عموماً ، سواء أكان عن طريق محاكم الدول أو بواسطة محكمين ، أن يحمى الأوضاع التى من ذلك القبيل .
وباستعراض الواقعات المطروحة فى ظل ذلك المبدأ القانونى ، خلص المحكم السويدى إلى أن الأدلة الثابتة لديه توضح أن المبالغ الموعودة كان جانب منها على الأقل سيستخدم فى تقديم رشاوى للمسئولين الأرجنتينيين لتسهيل حصول الشركة البريطانية على الصفقة . وبعد أن أوضح المحكم السويدى مخاطر مثل هذا السلوك على إدارة البلاد وخدمة قضايا التنمية ، قضى بعدم اختصاصه بنظر النزاع ولم يقبل أن ينظر الموضوع ويحكم برفض الدعوى . ويعتبر السند الأساسى لما انتهى اليه المحكم هو أن الأفراد الذين يشاركون فى نشاط من ذلك القبيل يجب أن يوقنوا أنهم بعملهم هذا قد اسقطوا أى حق لهم فى الحصول على معاونة أجهزة القضاء ، سواء أكانت محاكم وطنية أو هيئات تحكيم للفصل فى منازعاتهم.
(12-ب)والاتجاه الثانى : يرى أنه لا أثر للرشوة على صحة اتفاق التحكيم وعلى اختصاص المحكم بنظر المنازعات المتعلقة بالعقود الدولية للإنشاءات ، وهو ما انتهى إليه المحكم النمساوى( 10) فى قضية تتلخص وقائعها فى أن شركة مقاولات يونانية اتفقت مع مجموعة من أشخاص من إحدى دول الشرق الأوسط الإسلامية على رأسهم موظف كبير حينذاك على مبلغ من المال يتمثل فى نسبة مئوية من قيمة الأعمال مقابل تسهيل حصولهم على تعاقد حكومى عن طريق الممارسة . ونص فى الاتفاق على التحكيم فى باريس وفقا لقواعد غرفة التجارة الدولية . وتم الحصول على العقد الموعود ودفعت بالفعل النسبة المتفق عليها من المستخلصات الأولى ، على أنه نظراً لقيام ثورة فى البلاد وتوقف عمل الشركة اليونانية مع غيرها من الشركات الأجنبية ، لم تقبض الشركة دفعات جديدة ، وبالتالى لم تقم بسداد المبالغ المتبقية حسب القيمة للمطالبة بباقى مستحقاتها ، وتمسكت الشركة المدعى عليها بأن خسائر جسيمة قد لحقتها ولم تقبض أية مبالغ من الحكومة الثورية يمكن أن تسدد منها (العمولات) المتفق عليها , بدأ المحكم النمساوى حكمه بإبراز أن الدولة المعنية كان قد استشرى فيها الفساد إلى درجة لم يعد معها من المجدى محاربته بالتشريعات التى تعاقب عليه جنائياً ، وبعد أن استعرض القواعد التى تحكم بطلان العقود التى تتضمن رشوة الاتجار بالنفوذ وفقاً لقانون الدولة التى تم فيها النشاط وفى القانون الفرنسى بوصفه قانون مقر التحكيم ، خلص المحكم النمساوى هو الآخر فى مجاراة المحكم السويدى فى وجوب النظر إلى المسألة المطروحة من زاوية تسمو على القوانين الوطنية . ولكن المحكم النمساوى لم ينته إلى تقرير عدم الاختصاص أسوة بالمحكم السويدى ، وإنما قضى باختصاصه بنظر القضية وحكم برفض الدعوى موضوعياً .
(14) والواقع أن مسألة الرشوة تعتبر مسألة أولية ، تخرج عن اختصاص المحكم ، ويعهد بالفصل فيها إلى القاضى الجنائى ، ولا أثر لها على صحة العقد . ومع ذلك ، فإن الأمر يتوقف على القانون الواجب التطبيق ، فإذا كان القانون المصرى - مثلاً - هو القانون الواجب التطبيق ، فإن العقد يمكن ابطاله إعمالا لنص المادة (27) من القانون رقم 9 لسنة 1982 ، أو تطبيقاً للقاعدة العامة بأن الغش يبطل التصرفات ، ولكن ينبغى الأخذ فى الاعتبار التفرقة بين النظام العام الداخلى والنظام العام الدولى.
أولاً :المشكلات العملية التى يثيرها التحكيم فى عقود البوت BOT فى المرحلة السابقة على التعاقد
(15)أولاً : فى مرحلة التفاوض بشأن ابرام العقد الدولى للإنشاءات : تعد من الوسائل التى تستهل عملية التقاء إرادات الأطراف ، لأن التفاوض عبارة عن الأسلوب الذى يمكن عن طريقـه التوصل إلى التوفيق بين المصالح المتعارضة للمتفاوض بالتراضى ، أو بقبول الحلول الوسط ، كل ذلك على أساس من حسن النية والرغبة الصادقة فى التوصل إلى اتفاق .
والمفاوضات فى العقود الدولية للإنشاءات تبدأ - عادة - بمفاوضات ذات طابع فنى ، حيث يتعـرف كل طـرف على احتياجـات الطرف الآخر ، والقدرة على الاستجابة لها ، فإذا ما اسفرت المفاوضات عن تقارب وجهات النظر ، تبدأ المفاوضات القانونية لتحديد شروط التعاقد ، وأحكامه ، ومن ذلك : الضمانات القانونية ، ميعاد التنفيذ ، الضمانات البنكية ، وسائل التمويل المالى للمشروع ، والغرامات المالية ومقدارها وحدودها القصوى ... الخ .
والواقع العملى يؤكد على ضعف دور الخبير القانونى ، أثناء مرحلة التفاوض السابقة على ابرام العقد الدولى للانشاءات ، ويعد هذا - بحق - من أهم أسباب كثرة المنازعات بهذه العقود ، ويعتبر من أهم العوامل فى عدم فاعلية التحكيم فى هذا المجال(11 ) .
ويثور فى هذا الخصوص تساؤلين : الأول ، هو ما مدى التزام اطراف العقد الدولى للانشاءات بشرط التحكيم الوارد فى الأوراق التى تم تبادلها فى المرحلة السابقة على التعاقد والموقعة من طرف أو أكثر من الأطراف المتفاوضة ، فى حين أنه لم يرد بالعقد نتاج هذا التفاوض مثل هذا الشرط أو الاحالة إليه ؟ .. والثانى : طبيعة المسئولية عن قطع المفاوضات ؟ .
الواقع أن أوراق التفاوض لا حصر لها ، فيوجد ما يسمى بمذكرة التفاهم ، ورؤوس الاتفاق ، والاتفاق من حيث المبدأ ، وعهد الشرف ، وخطاب النوايا ، وخطاب الثقة وبروتوكول اتفاقى ، والاتفاق المرحلى ، والاتفاق على الاتفاق ، وخطاب التوصية ، والارساليات .
فالواقع - بالنسبة للسـؤال الأول - أن آراء الفقه والقضـاء تضاربت بشأن تبادل الأوراق السـابقة المتضمنة شرط التحكيم ، وتعرف هذه المشكلة بمعركة الاستمارات ، فبعضها اعتبرت المفاوض وكيلاً ، وانتهت إلى عدم امتداد شرط التحكيم اليه ، والبعض الآخر قضت بعكس ذلك ، والزمت المفاوض بشرط التحكيم تأسيسا على الارادة الظاهرة .
وهذا القضاء يمكن استخلاصه من حكم تحكيم فى اطار غرفة التجارة الدولية رقم 2291 حيث جاء فيه أن الأطراف لم يولوا عناية فى صياغة العقد من ناحية الشكل ، وأنه يمكن تفسير ارادتهم وارتباطهم انطلاقاً من المحررات التى صدرت وفى ضوء القواعد العامة للقانون والعدالة التى يجب أن تحكم المعاملات التجارية الدولية(12 ) .
وبالنسـبة للتساؤل الثانى ، فالراجح فى قضاء التحكيم أن المسئولية عن قطع المفاوضات لا تعتبر عقدية إلا فى حالة وجود اتفاق على التفاوض بفرض على الأطراف التزاماً عقدياً بمواصلة التفاوض بهدف ابرام العقد النهائى ، وهو ما يمكن استشفافه من حكم تحكيم Norsolor الصادر فى اطار غرفة التجارة الدولية تحت رقم 2121 فى 29/10/1979(13 ) ، والذى أثار موجة من الدعاوى أمام المحاكم الوطنية فى كلا من فرنسا والنمسا .
ولم ينكر حكم التحكيم المذكور على اتفاق المبادئ موضوع النزاع كل أثر قانونى ، حيث إنه يرتب - وفقاً لرأى محكمة التحكيم - التزاماً عقدياً بالتفاوض الذى يجب تنفيذه بحسن نية . وقد توصل جانب من الفقه من خلال بحثه لمرحلة المفاوضات قبل العقدية وطبيعة المسئولية المتعلقة بها فى ضوء أحكام التحكيم التجارى الدولى ، رغم قلتها فى هذا الصدد ، إلى أن قضاء التحكيم التجارى الدولى يعتبر هذه المسئولية - على غرار غالبية القوانين الوطنية - مسئولية تقصيرية .
(16)ويثور التساؤل حول مدى امتداد شرط التحكيم إلى الأشخاص الذين أبرموا أو ساهموا فى ابرام العقد المتضمن شرط التحكيم ، واتجهت ارادتهم إلى الارتباط به .
من المسلم به أن اتفاق التحكيم لا ينصرف أثره إلى غير اطرافه ، على أنه (( يجب أن تتجه إرادة الأطراف الذين ساهموا فى ابرام العقد المتضمن شرط التحكيم إلى الارتباط به ، ويخضع تفسـير هذه الإرادة لسلطة المحكمين )) . ويتجه القضاء إلى الأخذ بمفهوم واسع الارتباط ، حيث أسس قضاءه فى بعض الحالات على فكرة الاعتقاد المشروع ، وفى بعض الحالات الأخرى على فكرة القبول الضمنى لشرط التحكيم .
ولكن البحث عن الإرادة الضمنية ليس بالأمر السهل وخاصة فى عقود الاستثمار المبرم بين الدول ، ومن ذلك العقود الدولية للانشاءات ، حيث يكمن خلف الارتباط بشرط التحكيم والرضا الضمنى به ، مسالة التنازل عن الحصانة القضائية ، ومن هنا يبدو واضحاً ومفهوماً تخبط القضاء فى قبول التنازل الضمنى ، وتفسير اتجاه الإرادة إلى الارتباط بشرط التحكيم .
واعمالاً للقاعدة السابقة ، فإنه تثور مشكلة تتمثل فى مدى التوافق أو التعارض بين مبدأ القوة الملزمة لاتفاق التحكيم ، والاستقلال القانونى للاشخاص الاعتبارية العامة عن الدولة ، فالدولة تتمتع - من ناحية - بصفة السيادة ، أى بمزايا السلطة العامة وما يتبعها من حصانة قضائية ، ومن ناحية أخرى ، تمارس اعمال التجارة الدولية ، مما من شأنه أن يضفى على موقفها درباً من الغموض ، وفى هذا المقام يثور التساؤل حول قيمة توقيعها على العقود التى تبرمها الهيئات العامة التابعة لها ، والتى تتضمن شرط تحكيم ، فما قيمة توقيعها ؟ .. هل يعنى اتجاه ارادتها إلى الارتباط بالعقد وما تضمنه من شرط تحكيم ، أم أن هذا التوقيع تم بمقتضى ما لها من سلطة وصاية ، وبالتالى لا ينتج هذا التوقيع أى أثر قانونى تجاهها . وهذا التفسير الآخر تبنته محكمة النقض الفرنسية فى قضية هضبة الأهرام
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
منقوووووول