يقول جابر بن عبد
الله - رضي الله عنه -: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، ودع
عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".
[center]
أيها الكرام: إنه الحديث عن صوم الجوارح
الصيام الذي نحتاجه طيلة العام.
الصيام الذي لا يحد بحد، ولا يعرف بعد.
فإذا كان معنى الصيام الشرعي هو
الامتناع عن الأكل والشرب في نهار شهر رمضان من طلوع الشمس إلى غروبها،
وكذا في صيام النفل خلال العام، فإن الصيام الذي نقصده هنا تحتاجه على كل
أحوالك، وفي كل لحظات حياتك، وساعات أيامك، حال فطرك، وأثناء صومك، بل وفي
كل ثانية تمر من عمرك، وتقربك إلى قبرك، ولك أن تقول: إنه الترجمة الحقيقية
لأثر الصوم في نفسك يا ابن آدم
إذا لم يكن في السـمع مني تصـامم وفي مقلتي غـض وفي منطـقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظمأ وإن قلت: إني صمت يوماً فما صمـت
أيها المبارك:
أراك تتحرى في صيامك أن لا يصل إلى جوفك
مذقة ماء، أو لقمة طُعم، وهذا أمر لا يستقيم صحة صومك إلا به، وألمح حرصك
العجيب على سؤال أهل الذكر إذا عنَّ لك ما يكدر صفو صومك، يدفعك إلى ذلك
خشيتك أن يشوب صومك أي نقيصة، أو يخدشه أي جارحة، وهذا المتوقع والمرتقب
منك، وليس بالمستغرب والمستبعد عنك، فأنت من يهيئ نفسه للقاء الله والدار
الآخرة، ولكن ماذا عن صوم الجوارح؟
وقد تتساءل ماذا نقصد به؟
نعم سنجيبك، لكن نطلب منك طلباً قبل أن نشرح لك مرادنا من صوم الجوارح، فهل أنت مستعد لتلبيته؟
لا تخش، فلن نكلفك جهداً، ولن نطلب منك
بذلاً، وهو أمر في مقدورك، وأبشرك فهو سبب لسعادتك ونجاتك، يحتاج منك فقط
إلى صدق عزيمة، وتجرد مقصد.
ذاك أنك تحيى هذا الصيام - صيام الجوارح - واقعاً عملياً في شهرك وفي غير شهرك؛ لتكن ممن شملهم هذا الوصف الرباني: {الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}1، وهنا حان الوقت لنوقفك قليلاً حتى تتعرف على المقصود من صوم الجوارح إنه:
صوم اليد عن المعاصي، فلا تبطش .. ولا تسرق .. ولا تضرب.
صوم الرجل عن المشي إلى أماكن اللهو والخنا، والفساد في الأرض، ومحل سخط الله وغضبه.
صوم اللسان عن الكذب .. وقول الزور .. والنميمة والغيبة .. والسب .. والجدال.
صوم الأذن عن الإصغاء إلى سماع الغناء، وما لا يرضاه الرب سبحانه.
صوم العين بغضها عن النظر إلى ما يغضب الرب - جل جلاله -.
صوم الجوف عن أكل
الحرام، وأعظم مرتع لصوم جوارحك هو يوم صومك؛ ذلك لتحظى بدرجة سامية من
درجات الصوم، يقول صاحب كتاب "إحياء علوم الدين": الصوم ثلاث درجات: صوم
العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص ... فأما صوم الخصوص فهو صوم
الصالحين، وهو كف السمع والبصر، واللسان واليد، والرجل وسائر الجوارح عن
الآثام، ويتحقق بخمسة أمور هي:
* غض البصر، وقد قيل: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها مخافة الله أعقبه إيماناً يجد طعمه في قلبه.
* صوم اللسان وهو حفظ اللسان عن الهذيان
والكذب، والغيبة والنميمة، والفحش والجفاء، والخصومة والمراء، وشغله بذكر
الله وتلاوة القرآن عملاً بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام جنَّة؛ فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن إمرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم))2.
* صوم السمع بكف السمع عن الإصغاء إلى
كل مكروه؛ لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوَّى الله بين
التسمع وبين أكل السحت فقال - تعالى -: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}3، وقال - تعالى -: {لَوْلاَ
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}4.
* كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد
والرجل، وكفِّ البطن عن الشبهات في زمان الفطر، فلا معنى للصوم بالكف عن
الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام قال - صلى الله عليه وسلم -: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش))5
قيل في تفسير ذلك: هو من يفطر على الحرام، وقيل: هو الذي يمسك عن الطعام
الحلال، ويفطر على لحوم الناس بالغيبة، وقيل: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن
الآثام.
* عدم الاستكثار من الطعام الحلال عند
الإفطار، إذ لا يوجد وعاء ملئه بغيض إلى الله من بطن مليء من حلال، إذ كيف
تكسر الشهوة، ويقهر الشيطان إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته في نهاره،
وربما زاد عليه6.
توجيه نبوي:
ها هو نبيك - صلى الله عليه وسلم -
يحذِّرك من مغبة الوقوع فيما يخدش صومك، أو يخرجه عن كماله المطلوب فيقول -
عليه الصلاة والسلام -: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، وإن جهل عليه أحد فليقل: إني امرؤ صائم))7.
فهذا أشرف البشرية - عليه الصلاة
والسلام - يُلخصُ لك حقيقةَ الصومِ, ويُجلي ثمرته, والقضيةُ ليستْ قضيةَ
تجويعٍ وحرمانٍ من الوطء الحلال، إنَّها قبل كل ذلك كفُّ للسان عن قالةِ
السَوء من غيبة ونميمة، وثلب لأعراض المسلمين, وخوض في نواياهم, وبث للفرقة
والتناحر في أوساطهم.
إنها قبل ذلك كبح لجماح الهوى وحظوظ
النفس من التلطخ بقذارة الخطيئة, وشؤم المعصية، وجُرمِ الانغماس في وحل
المخالفة, ومجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله.
إنَّ الصوم قبل أن يكون تأجيلاً لطعام
الغداة, وتأخيراً لرشفة الظهيرة؛ هو امتناع الأصابع عن العبث بأزرَّةِ
قنوات البثِّ الفضائي, وحفظ الحواس عن مطالعة ما حرَّم الله، أو الاستماع
إلى ما يغضب الله.
إنَّه صوم الجوف عن أكل الحرام من
الرشوة والربا، أو الغلول والسرقة، أو أكل أموال اليتامى، ومرتبات الأجراء،
وتسويق المعازف, وترويج المخدرات، وبيع الدخان والمجلات وغيرها مما حرَّمه
اللهُ ورسوله.
إنَّه صوم الجوارح كلِّها عن انتهاك الحدود, وتجاوز السدود.
فالصوم الحقيقي إذن هو صوم الجوارح عن
الآثام، وصوم البطن عن الطعام والشراب، وكما أن الطعام والشراب يقطعه فهكذا
الآثام تقطع ثوابه، وتلغي ثمرته، فتصيّره بمنزلة من لم يصم يقول عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه -: "ليس الصوم من الشراب والطعام وحده، ولكنه من
الكذب والباطل واللغو".
يا مديم الصوم في الشهر الكريم صم عن الغيبة يوما ًوالنميم
ختاماً: لا تنس ما تشارطنا عليه، والله يرعاك.
1سورة الزمر (18).
2رواه البخاري برقم (1795)، ومسلم برقم (1151).
3سورة المائدة (42).
4سورة المائدة (63).
5رواه أحمد في مسنده برقم (8843)، وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده جيد".
6إحياء علوم الدين (1/234) بتصرف يسير جداً.
7رواه ابن ماجه برقم (1691)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1691).
[/center]