التفقه في الدين
الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ثم بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسوله، فلا بد من شكر من كان له فضلٌ في ترتيب هذا اللقاء وتنظيم هذا الاجتماع في هذا البيت من بيوت الله.
ومن أخص من يخص بالذكر فضيلة إمام المسجد الشيخ حمد المطوع ، والشيخ تركي بن قعود ، وآخرين من ورائهم لا تعلمونهم الله يعلمهم!
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي كل محسن بإحسانه ويثيبه، ويجعل هذا الاجتماع مقرباً إلى رضوانه، وأن يكتب لنا ذلك في ميزان حسناتنا؛ ما كان منه من صواب، وما كان سوى ذلك، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو ويسامح.
أيها الإخوة: الموضوع الذي اختير لهذا اللقاء، وقد اختاره الإخوة هنا، اختاروه بعنوان: التفقه في الدين فضله ووسائله.
وهو موضوع لا شك جدير بالاهتمام، وجدير بالنظر، وجدير بالتذاكر فيه، ولا شك أنهم ما اختاروا هذا إلا لما لهم من خبرة، ولما يعرفونه من حاجة الناس إلى مثل هذا.
ويكفي لجاذبيته وبيان أهميته: عنوانه (التفقه في الدين) فهو متضمن لكلمتين عظيمتين التفقه والدين، التفقه مضافاً إلى الدين، ولهذا سوف يأتي معنا في ثنايا الحديث إشارات كثيرة، وبخاصة عند قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين }؛ فإن هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أوتي جوامع الكلم- على وجازتها وعلى قلة ألفاظها، فإنها مليئة بالمعاني كما سوف نشير ولا نستبق الأحداث.
أرجو أن يتسع الوقت للحديث عن جملة من العناصر؛ أذكرها تذكيراً بها: منها التفقه في الدين من حيث معناه، ثم بيان ما كان منه فرض عين وما كان فرض كفاية، ثم إِشارة إلى طبيعة العلم النافع وآثار هذا العلم، وقد يكون فرصة لأن يختبر الإنسان نفسه في هذا الباب، ثم إشارة إلى صفات طالب العلم والفقه؛ صفات على جهة الإجمال، ثم صفات على جهة التفصيل تتضمن الوسائل.
وقبل ذلك فضل العلم وشرف مرتبته؛ لأن العنوان -كما تعرفون- متعلق بالفضائل والوسائل، ثم وسائل عملية، وهي فيها إشارة إلى الصفات ولكنها في الواقع وسائل، منها ما هو وسائل معنوية لا يكاد يتحقق الفقه الحقيقي إلا بها، من الإخلاص والخشية والعمل بالعلم، ثم التلقي عن المشايخ، وسوف يكون لنا فيه وقفة، ثم التواضع وعدم الاستنكاف من تلقي العلم في أي زمن من العمر ومن أي عالم مهما صغر سنه أو لم تكن لك به معرفة من قبل.
ثم مبادرة الشباب، وفرص العمر، والبعد عن الشواغل والتسويف، ثم الأدب لتلقي العلم، ثم عدم التعجل في التصدر، ثم قول لا أدري، ثم عدم الاستنكاف عن السؤال مهما بلغ الإنسان من مراحل علمه وتعلمه.
وهذا إجمال لما سوف يكون الحديث عنه، ولعل الوقت يتسع لكل ذلك، وإن لم يكن فأرجو أن آتي عليه ولو على شيء من الإجمال.
تعريف التفقه
التفقه مأخوذ من الفقه، والتفقه ذاته جاء في خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، أما خبر الله فقوله سبحانه: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
فجاء النص على التفقه في الدين بذاته.
أما خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين } .
ولاحظوا أن الآية والحديث كلها ربطت الفقه بالدين، فلا يكون الفقه نافعاً ولا مفيداً إلا حينما يكون مرتبطاً بالدين، وسوف يكون لنا -كما قلت- وقفات عند هذا.
والتفقه مأخوذ من الفقه، والفقه هو الفهم، ولهذا يقول الله عز وجل في المنافقين: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78].
وسوف يأتي معنا كلام جميل لـابن القيم في الفرق بين العلم النافع وغير النافع، بين علم منفي وعلم مثبت.
وصف الله تعالى المنافقين بأنهم لا يفقهون حديثاً، مع أنهم يفقهون ولهم عقول ويفهمون، لكن ما هو الفقه الذي لا يفقهونه؟
يقول الله عز وجل في سحرة اليهود: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].
في أول الآية أثبت لهم العلم، وفي آخرها نفاه عنهم فما هو الفقه المثبت والمنفي؟
لهذا فإن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه لما رأى الناس فتحت وتوسعت عليهم الدنيا، ورأى الانكماش في طلب العلم ذهب يصيح: [[أيها الناس! ميراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم في المسجد .
ففرحوا لمحبتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل واحد ترك بضاعته وشغله، وجاءوا يجرون, وكلٌ يريد أن يأخذ مما تبقى من أشيائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن كانت آنية أو أي شيء من سلاحه ولو من شعره، فهذا مما يتبرك به.
جاءوا وجلسوا وإذا به يقول : حدثني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.., فقالوا: أين الميراث يا أبا هريرة ؟! قال: هذا الميراث، ما ورث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا العلم.. وهذا الهدى.. وهذا النور، ونحن إليه أحوج من كل ميراث ))
وكما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه قد يعيش الناس بلا أطباء، ويتداووا بما يسر الله لهم من أعشاب أو مما تعارفوا عليه، والمهم أن يكون حلالاً، لكن هل يمكن أن يعيش الناس وتستقر وتهنأ وترغد حياتهم بلا علم أو بلا علماء؟!
ولهذا بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العلم قال: )) إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً يأخذه من صدور العلماء، ولكن ينزعه بموت العلماء، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وقد خص بالدعوة بالفقه في الدين : ربيب بيت النبوة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ) .
فصار ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها الذي لا ينزف .
وعظمة هذا العلم وشرفه تَجلّ عن الوصف والإحاطة، ذلك أنها أحكام تساير المسلم وتلازمه في عموم مسالك حياته فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين عباده .
فبها يشد حبل الاتصال بعبادة ربه في علانيته وسرّه ؛ من طهارة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج ومناسك.
وبها ينشر راية الإسلام ويرفع منار القرآن وذلك في فقه الجهاد، والمغازي، والسير، والأمان، والعهد ، ونحو ذلك .
وبها يتطلب الرزق المباح، ويبتعد عن مواطن الإثم والجناح ، وذلك في فقه المعاملات من بيع وشراء، وخيار، وربا،
فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ، ومن أسباب السعادة للعبد ، ومن علامات النجاة والفوز أن يفقه في دين الله ، وأن يكون فقيها في الإسلام ، بصيرا بدين الله على ما جاء في كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد ،،
فإن من أهم الجوانب التي ينبغي التركيز عليها مبحث الفقه في الدين ، سيما في هذا الزمن الذي اختلط فيه الحابل بالنابل ، وكثر عدد المتعالمين والمفتين ، و أصبح الدم رخيصاً ، بناء على فتاوى سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان ، ذلك أن الفقه في الدين يجعل المرء المسلم ثابتاً على قمة الوسطية بعيداً عن طرفي الإفراط والتفريط ، إذ الحق حسنة بين سيئتين .
وبما أن الشباب-بصفة خاصة- هم صفوة المجتمع وموجهو المستقبل ، وصانعوا عقول الأجيال القادمة ، كان لزاماً أن يكونوا فقهاء بدينهم ، وواقعهم حريصين على مصالح بلدانهم ، يوازنون بين المصالح والمفاسد ، ويفقهون أدب الخلاف ، ويبلغون الخير للغير بحكمة وموعظة حسنة وهذا هو سر اختيار هذا الموضوع وضرورته .
المقصود بالفقه :
الفقه في اللغة : العلم بالشيء والفهم له والفطنة فيه ، وهو في الأصل : الفهم ، يقال : أوتي فلان فقهاً في الدين أي فهماً فيه ، وفقه فقهاً : بمعنى علم علماً ، وفقه بالكسر : فهم ، وغلب على علم الدين لشرفه (1) .
وفي الاصطلاح : العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية (2) ، والمراد بالفقه في هذه الورقة اللغوي لا الاصطلاحي .
وأقصد بالفقه في الدين : فهم المراد من نصوص الشرع سواء كانت النصوص تتعلق بمسائل الأصول أو مسائل الفروع وتقديم الآراء والحلول لما يجد من أشياء وأمور ، استناداً للنصوص الشرعية والفقه فيها وهذا الفهم يفهم في ضوء قول النبي صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ، بعد ما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان ، مع قول )) من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ))(3) والآثار الأخرى .
لماذا الفقه ؟
1. لتوافر النصوص الشرعية الواردة في بيان فضل الفقه في الدين والترغيب فيه ومن ذلك : - قوله تعالى : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (4) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )) (5) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .. الحديث (6) ، وفي لفظ (( خيارهم إسلاماً ، أحاسنهم أخلاقاً إذا فقهوا )) (7) ، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله : (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )) ( .
2. لأن جل الأخطاء التي تقع في هذا العصر وتنسب إلى الإسلام تقع بسبب جهل المرتكبين لها بدينهم وعدم فقههم له .
3. ولأن هذا الدين هو الدين الشامل الكامل الخاتم الذي لا يقبل الله يوم القيامة ديناً سواه {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (9) ، فكان لا بد من بيانه للناس كما أنزل ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .
4. لأن طلبة الجامعات والكليات هم موجهو الأجيال وبناة أفكارهم في المستقبل فلا بد من تأصيل هذه المسألة لديهم وفقههم لها ، إذ يصعب إحاطتهم بكل أصول الدين وفروعه ، غير أن فقههم لمقاصد الشريعة ، وفقه الموازنات والأوليات وفقه أدب الخلاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من مسائل الفقه الكلية مقدور عليه .
5. لأن الأمة تبتلى في كل عصر بغلاة وجفاة وقد قيل ضاع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه) ، وفي هذا العصر ابتليت الأمة بالغلاة من دعاة التكفير والتفجير والتدمير ، وبالمتفلتين المستغربين دعاة التجديد المطلق والتحلل من كل القيم والانسياق وراء أطروحات الغرب والشرق فكان لا بد من تأصيل وتعميق مبدأ الفقه في الدين في عقول أبناء الأمة ليحد الغلاة ويقصر المتفلتون ويلتقي الطرفان في وسطية الإسلام .
شمولية الفقه :
ليس الفقه شيئاً واحداً بل هو متنوع شامل فمن ذلك فقه المقاصد والنيات ، وفقه الموازنات والأوليات ، وفقه الاختلاف ، وفقه سماحة الإسلام ويسره ، وفقه الواقع ، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفقه الدعوة ، وفقه الثوابت والمتغيرات .. وغير ذلك .
وسأشير في هذا البحث المختصر إلى المقصود بيانه من كل نوع من هذه الأنواع بشيء من الإيجاز والإيضاح :
أولاً: فقه المقاصد والنيات
والمقصود بهذا الفقه مراعاة قصد المتكلم ونيته قبل الحكم عليه ، وبيان أثر النية والقصد عند التعامل مع الآخرين ويشمل ذلك قواعد عدة منها :
القاعدة الأولى :
مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في موضع واحد وهو الحلف فإنه على نية المستحلف ، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم : (( وإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ))( 10) . ويدخل في هذه القاعدة في باب التطبيق والتعامل مع الآخرين أن المسلم الورع ينقل ما يصدر عن الآخرين من عبارات ومقولات كما صدرت دون تعرض للمعنى ويعلل ذلك ابن الوزير بأن حكاية كلام الخصوم بالمعنى فيه ظلم لهم لأن الخصم اختار لفظاً وعبارة ارتضاها لبيان مقصده .
ويدخل في ذلك عدم اتهام النيات إذ اللفظ على نية اللافظ ، ومن قواعد الإسلام أن القلوب علمها عند الله وعلى الناس ألا يأخذوا إلا بالظاهر والله يتولى السرائر . والأصل في ذلك أحاديث عدة منها :-
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) (11) ، وفي حديث أبي سعيد الخدري في ذكر أوصاف الخوارج ، وقول خالد رضى الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ((وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق عن بطونهم ))(12) وغير ذلك .
القاعدة الثانية :
يغتفر في الوسائل مالا يغتفر في المقاصد ؛ وتعني هذه القاعدة أن حكم الوسيلة إلى الشيء يختلف عن حكم الغاية والمقصد - ولا يعني ذلك المقولة المشهورة المرذولة(الغاية تبرر الوسيلة) - بل الأمر عند المسلم يختلف فوسيلته وغايته شرعيتان ويمكن التمثيل لهذه القاعدة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً )) (13) فالكذب لإصلاح ذات البين جائز ، إذ هو وسيلة لمقصد عظيم وهو الإصلاح بين الناس مع أن الكذب في أصله غير جائز .
وخلاصة هذه القاعدة أنه لا بد من التفريق بين الأحكام المتعلقة بالوسائل والأحكام المتعلقة بالمقاصد ؛ وهذه القاعدة لها تعلق عند التطبيق بحسن الظن بالمسلمين وحمل ما يصدر عنهم على المحمل الحسن سيما إذا كان من أهل الخير والصلاح ويمكن التمثيل لهذه القضية بقصة حاطب بن أبي بلتعة في كتابته لكفار قريش .
القاعدة الثالثة :
الحكم مترتب على القصد . ويقصد بهذه القاعدة أن من عمل عملاً ولم ينوه أو يقصده لعارض كالنوم أو النسيان أو الخطأ فإن هذا العمل لا يترتب عليه من الآثار والأحكام ما يترتب على من قصد العمل وأراده ، والأصل في ذلك قول النبي : (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))(14) .
والغرض من تأصيل هذا الفقه بيان المنهج الشرعي في التعامل مع ما يصدر من أهل العلم والفضل مما ظاهرة الزلل والخطأ والتفريق بين المتعمد لذلك وبين من لم يقصد الخطأ .
ثانياً: فقه أدب الخلاف
والمقصود بهذا الفقه بيان المنهج الشرعي في التعامل مع المخالف سواء كان مسلماً أو كافراً ، وبيان آداب الحوار مع الآخرين ، والقضاء على ظاهرة الإقصاء واحتكار الحقيقة المطلقة .
والمخالفون أنواع وأصناف شتى من الناس ولكنهم على اختلافهم ينقسمون إلى قسمين :
1- المخالف المسلم .
2- المخالف الكافر .
والمسلم مطالب بالالتزام بأخلاق الإسلام في التعامل مع المخالفين وهذا مرهون بأمرين :
1- الفقه الشرعي والمعرفة الصحيحة بالأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوع .
2- الأخلاق النفسية الشخصية المستقرة داخل النفس .
والفقه الشرعي في هذه المسألة يسلتزم معرفة ثلاثة أمور :-
1- أقسام الاختلاف .
2- أسباب الاختلاف .
3- أدب الاختلاف .
الخلاف على نوعين : اختلاف تنوع واختلاف تضاد . واختلاف التنوع له صور كثيرة مبسوطة في مظان ذلك .
أصول عامة للتعامل مع الآخرين :
1- العدل .
2- الأخذ بالظاهر .
3- مرجعية الكتاب والسنة .
4- التثبت من المنقول قبل اتخاذ المواقف .
5- قبول الحق ممن جاء به .
أسباب الاختلاف :
1- طبيعة البشر وتفاوتهم في القدرة على الفهم والاستدلال .
2- طبيعة النصوص .
3- طبيعة اللغة .
4- عدم بلوغ الدليل للعالم أو الفقيه .
5- عدم ثبوت الحديث عند البعض وثبوته عند غيرهم .
6- النسيان .
7- الخطأ والوهم .
8- عدم العلم بالنسخ .
9- اختلافهم في دلالة النص .(15)
الدعائم الفكرية في فقه الاختلاف :
1- الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة .
2- إتباع المنهج الوسط وترك التنطع في الدين .
3- التركيز على المحكمات لا المشتبهات .
4- تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية .
5- ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء .
6- شغل المسلم بهموم أمته الكبرى .
7- فقه أصول المعاملة الشرعية الواجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم .
آداب وأخلاقيات الخلاف :
1- الإخلاص والتجرد من الأهواء .
2- التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف .
3- إحسان الظن بالآخرين .
4- ترك الطعن والتجريح .
5- البعد عن المراء واللدد في الخصومة .
6- الحوار بالتي هي أحسن .
مظاهر لمفاهيم مغلوطة في هذا الباب تنبئ عن عدم الفقه الدين :
1- الظن بأن المخالفة في الرأي توجب العداء والإيذاء .
2- الظن بأن المسلم المخالف لا يصح ذكر شيء من محاسنه أو العدل معه .
3- الظن بأن المسلم المخالف لا يصح إحسان الظن به .
4- الظن بأنه يجوز الحكم على عقائد الناس بالظن .
5- استباحة عدد من الأساليب المحرمة في التعامل مع المسلم المخالف .
6- الظن بأن المسلم المخالف لا يصح التعامل معه أو إعطاؤه شيئاً من الحقوق .
7- الظن بأن المسلم المخالف يجوز الكلام في عرضه .
8- زعم التقرب إلى الله تعالى بأذية المسلم لأخيه المسلم .
9- معارضة هذه الأوهام لما جاءت به شريعة الإسلام .
خلق التعامل مع المخالف الكافر :
ينقسم الكافر إلى محارب وغير محارب ولكل منهما أحكام :
مظاهر العلاقة بالكافر غير المحارب :-
1- كف الأذى والظلم وعدم التعدي (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ))(16)
2- التزام أصول الأخلاق في الإسلام معه من الصدق والأمانة والعدل وتحريم الغدر والظلم
3- جواز إيصال البر والمعروف الإنساني إليه ومن ذلك جواز الهدية لكن الإسلام في الوقت نفسه لا يسوي بين المسلم والكافر في مجال آخر هو مجال الدين وما يستلزمه من حقوق بين المسلمين ومجال ولاية الله ونصرته .
ولذا حرم الإسلام على المسلم أنواعاً من الأخلاق وصوراً من التعامل مع الكافر لعل أصولها ما يلي :-
أ- محبة الكافر ومودته لا تجوز ... وهذا حكم معلق بالأوصاف لا بالأشخاص .
ب- موالاة الكفار من دون المؤمنين .
مظاهر طبيعة علاقة المسلم بالكافر المحارب :
1- النهي عن البدء معهم بالقتال قبل الدعوة .
2- النهي عن الغدر والمثلة في القتال .
3- النهي عن قتل من لا تقتضي الجهاد في سبيل الله قتله كالصبيان والنساء .
4- تحريم إفساد الزروع والثمار وإحراق الدور .
مفاهيم مغلوطة في التعامل مع الكفار :
1- الانطلاق من الانفعالات والمواقف الشخصية .
2- الانطلاق من مفاهيم يظن أنها شرعية
3- الظن بأن أذية المسلم للكافر فيها أجر مطلقاً .
4 - الظن بأن التعامل الحسن مع الكافرين حرام .
5- اختلاط مفهوم التعامل الحسن بمفهوم الولاء .
6- الظن بأنه لا يجوز السلام على الكافر مطلقاً .
7 - الخلط بين تفضيل الإسلام وتفضيل الخلق الشخصي للمسلم(17) .
ثالثاً: فقه مقاصد الشريعة ومراتبها
المقصود بمقاصد الشريعة : هي الغايات التي أنزلت الشريعة لتحقيقها لمصلحة الخلق في الدارين .
المقصد العام للشريعة الإسلامية : عمارة الأرض ، وحفظ نظام التعايش فيها ، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها ، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة .
وما من حكم شرعي إلا وهو يحقق مصلحة أساسها المحافظة على النفس أو العقل أو الدين أو النسل أو المال ، وإن هذا يبدوا من الشريعة من جملة مقاصدها ، ولا يمكن أن يكون حكم شرعي إلا وهو متجه إلى ناحية من هذه النواحي .
مراتب مقاصد الشريعة :
اصطلح العلماء على تقسيم المقاصد إلى ثلاث مراتب :-
1- الضروريات .
2- الحاجيات .
3- التحسينات .
الضروريات : هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين .
والضروريات هي ما اصطلح على تسميته بالضروريات الخمس وهي : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فحفظ الدين من باب العبادات ، وحفظ النفس والعقل من باب العاديات ، وحفظ النسل والمال من باب المعاملات .
والحاجيات : هي المفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة . وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات . ففي العبادات : كالرخص المخفضة في السفر والمرض . وفي العادات : كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال . وفي المعاملات : كالقرض والمساقاة والسلم وغيرها .
أما التحسينات : فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق كإزالة النجاسة وستر العورة وأخذ الزينة .
وفي ضوء هذا التقسيم لا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بما هو ضروري أو حاجي ، لأن الفرع لا يراعي إذا كان في مراعاته والمحافظة عليه تفريط في الأصل ولذلك أبيح شرعاً كشف العورة عند الاقتضاء لأجل تشخيص داء أو مداوة أو عملية جراحية ضرورية لأن ستر العورة من الأمور التحسينية أما العلاج فمن الضروريات لأن حياته النفس أو العقل أو النسل . وبعد هذا التأصيل لهذا الفقه لنا أن نسأل : هل سمع دعاة التفجير والتدمير من خوارج العصر بهذا الفقه فضلاً عن امتثاله؟
وهل وازنوا بين المصالح والمفاسد عند ما دمروا وقتلوا ؟! وأي مصلحة راجحة أو مرجوحة خرجوا بها من جراء أعمالهم ؟
إنني أقول جازماً وبدون تردد لو أن هؤلاء القوم على دراية بأصول هذا الفقه ما دمروا وأفسدوا وقتلوا ، فهل بشك عاقل بعد ذلك في ضرورة هذا الفقه في مناهج تعليمنا العالي وغيره .
ومما يبنى على فقه المقاصد فقه آخر يسمى بـ : فقه الموازنات والأولويات : المراد بهذا الفقه : هو الفقه الذي يوازن بين المصالح بعضها وبعض مرجحاً الراجح على المرجوح ، ويقدم الأفضل على المفضول والأهم على المهم ، والواجب على المندوب ، والضروري على الحاجي ، والحاجي على التحسيني عند التعارض . وهو ذلك الفقه الذي يوازن بين المفاسد بعضها وبعض . وهو أيضاً الفقه الذي يوازن بين المصالح والمفاسد عند التعارض . يقول شيخ الإسلام ابن تيمه : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين .. إن اللبيب إذا بدى من جسمه .. مرضان مختلفان داوى الأخطرا(18) . والمراد بالتعارض بين المصلحتين تعذر تحققهما معاً .... والمراد بالتعارض بين المفسدتين تعذر دفع المفسدتين جميعاً . والمراد بالتعارض بين المصالح والمفاسد التلازم بينهما .
ولدفع هذا التعارض يجب مراعاة القواعد التالية :-
القاعدة الأولى : إذا تعارضت مصلحتان وتعذر الجمع بينهما وتحصيلهما جميعاً ، وجب تفويت المصلحة الصغرى لتحصيل المصلحة الكبرى . كمن أصاب يده مرض وقرر الأطباء بترها . وقد دل عليه من القرآن قول الله تعالى : {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي{(19) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما : (( لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين)) ... الحديث(20)
القاعدة الثانية :إذا تعارضت مفسدتان وتعذر درءهما جميعاً بل لا بد من الوقوع في إحداهما ، فحينئذ يجب ارتكاب المفسدة الصغرى في سبيل دفع المفسدة الكبرى مثل : تعارض مفسدة ذهاب المال مع مفسدة ذهاب الدين أو النفس ، ومثل خرق الخضر للسفينة حتى لا يأخذها الملك الظالم .
القاعدة الثالثة : إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ولذلك صور :
1. أن تكون المفسدة أكبر من المصلحة .
2. أن تتساوى .
3. أن تكون المصلحة أكبر .
ومثل ذلك قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ { (21).
نماذج من الموازنات :
• استخلاف أبي بكر الصديق قبل دفن النبي صاى الله عليه وسلم.
• حصار المسلمين لمدينة تستر والصلاة بعد طلوع الشمس .
• ما حدث للمسلمين في بيروت عندما أرادوا فك الحصار عن إخوانهم في عكا .
وهذه المواقف مبسوطة في كتب التاريخ .
رابعاً: فقه سماحة الإسلام ويسره
والمقصود من هذا الفقه تأصيل المبادئ التالية :-
1. ليس من مقاصد الإسلام تحري المشقة وجلب العسر .
2. لا تكليف إلا بما يستطاع .
3. عموم الشريعة زماناً ومكاناً وأشخاصاً .
4. أن التشدد والغلو ليس شرعة المسلمين وإنما هو شرعة من قبلهم .
5. أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .
6. أن القاعدة الشرعية ( المشقة تجلب التيسير ، والأمر إذا ضاق اتسع ) . وذلك أن النصوص الشرعية قد تواترت على الترغيب في التيسير ونبذ الغلو والتنطع .
خامساً: فقه الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذا الفقه مستخلص من قوله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(22) وقوله تعالى : {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }(23) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى عندما أرسلهما إلى اليمن : (( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ...)) الحديث
وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى قواعد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبسوطة في كتب الدعوة والحسبة تكتب بماء الذهب .
فمن تلك القواعد من باب التمثيل لا الحصر :
في باب إنكار المنكر :-
1. تقديم الأهم على المهم .
2. التدرج بالإنكار .
3. ألا يترتب على إنكار المنكر ماهو أنكر .
4. ألا يكون المنكر من مسائل الخلاف السائغ . إلى غير ذلك مما هو مبسوط في مظانه .
وفي باب الدعوة :-
1- الحكمة والرفق .
2- مراعاة عقول الناس وأفهامهم .
3- مراعاة الظروف والأحوال ... إلى غير ذلك .
سادساً: فقه الثوابت والمتغيرات .
والمقصود بالثوابت : القطعيات ومسائل الإجماع ، بالإضافة إلى بعض الاختيارات العلمية الراجحة ، التي تمثل مخالفتها نوعاً من الشذوذ والزلل .
والمتغيرات : هي الظنيات وموارد الاجتهاد ، وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح .
والمقصود بفقه الثوابت والمتغيرات معرفة ذلك ، وفهم المنهج المعتبر لدى أهل العلم في التعامل مع كل منهما والهدف من معرفة ذلك بيان ما ينعقد الولاء والبراء عليه ، وبين ما يسع الأمة فيه ما وسع من سبقهم من خيار الأمة فيتكلم فيه كل بما عنده من حجج وبينات مع بقاء الألفة والعصمة في الدين .
كما أن من أهداف هذا الفقه بيان أن الثوابت لا مجال فيها للتطوير والاجتهاد ، ولا يحل الخلاف فيها لمن علمها . قال الشافعي : (( كل ما أقام به الله الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه ))(24) بخلاف المتغيرات والوسائل .
ويبين الشيخ القرضاوي الفرق بين الثوابت والمتغيرات فيقول : ( فمن أحكام الدين ما يتعلق بالعقائد التي تحدد نظرة الدين إلى المبدأ والمصير ، إلى الله والكون والحياة والإنسان ، أو ما يسميه علماء العقائد عندنا : الإلهيات والنبوات والسمعيات) .
وهذه حقائق ثابتة لا تتغير . ومنها ما يتعلق بشعائر العبادات الرئيسية التي تحدد صلة الإنسان العملية بربه ، وهي التي تعتبر أركان الإسلام ومبانيه العظام ، وهذه في أسسها العامة ثابتة ، وإن كان الاجتهاد يدخل عليها في كثير من التفاصيل . ومنها ما يتعلق بالقيم الخلقية ، ترغيباً في الفصائل وترهيباً من الرذائل ، وهذه تتميز بالثبات أيضاً في مجموعها . وهذه الثلاثة لا يحتاج الناس إلى تغيرها ، بل إلى ثباتها واستقرارها لتستقر معها الحياة وتطمئن العقول والقلوب .
بقى أمر نظم الحياة المختلفة ، مثل نظام الأسرة والمواريث ونحوها ، ونظام المعاملات والمبادلات المالية ، ونظام الجرائم والعقوبات ، والأنظمة الدستورية والإدارية والدولية ونحوها ، وهي التي يفصل أحكامها الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه . وهذه ذات مستويين :
- مستوى يمثل الثبات والدوام : وهو ما يتعلق بالأسس والمبادئ والأحكام التي لها صفة العموم وهو ما جاءت به النصوص القطعية الثبوت ، القطعية الدلالة ، التي لا تختلف فيها الأفهام ، ولا تتعدد الاجتهادات ، ولا يؤثر فيها تغير الزمان والمكان والحال .
- ومستوى يمثل المرونة والتغير : وهو ما يتعلق بتفصيل الأحكام في شئون الحياة المختلفة ، وخصوصاً ما يتصل بالكيفيات والإجراءات ونحوها ، وهذه قلما تأتي فيها نصوص قطعية ، بل إما أن يكون فيها نصوص محتملة ، أو تكون متروكة للاجتهاد ، رحمة من الله تعالى غير نسيان )(25) .
والخلاصة أن الهدف من تأصيل هذا الفقه وضع قواعد ثابتة دائمة لجيل المستقبل حتى لا ينساقوا مع دعاة التجديد والعصرانين الذين ينادون بنسف كل قديم ، وتغيير كل ثابت ، بل ليس ثمة ثوابت عندهم ، كما لا يقعوا في شراك الجامدين على المألوف القديم ونبذ كل جديد حتى وإن كان في الوسائل والأساليب وفيه مصلحة راجحة للأمة ، بل الوسطية في هذا الأمر وغيره هي المنهج الشرعي الدائم الذي يبين المولى عز وجل أنه من أخص صفات هذه الأمة : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }(26)
وبعد : فإن المقصود بيانه في هذا المبحث أن الفقه في الدين ضرورة ملحة في زمن الفتن والعولمة . وأن الفقه في الدين شامل ومتنوع وليس حكرا على ما يتبادر الذهن إليه ويعرفه عامة المسلمين من أنه فقه الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية . وأن المقصود من دراسة جوانب هذا الفقه الشامل تحصين شباب الأمة وموجهي أجيالها من غلو المفرطين وتفلت المفرطين وبيان المنهج الوسط لهم في ذلك . وأن ما ذكر من أنواع الفقه في هذه البحث ليس للحصر بل للتمثيل فهناك أنواع أخرى من الفقه لم أتطرق إليها مثل :-
• فقه الواقع أو ما يسمى بفقه المرحلة .
• فقه النوازل .
• فقه السنن الإلهية .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
من أسباب الانحراف الفكري قلة الفقه في دين الله
إبراهيم بن عبدالله الزهراني
الدين الإسلامي مبناه على الوحي؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} (الأنبياء:45)،وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: من الآية113).
وفرض الله على الناس اتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد دل القرآن على أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو مطيع لله؛ كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80) وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31). فإقامة الدين على الوجه المطلوب شرعا لا تحصل إلا بالعلم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال أبو حمزة البزاز: " من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلا متابعة الرسول في أقواله، وأفعاله، وأحواله" ولذلك أمر المولى تبارك وتعالى بطلب العلم؛ فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)، وندب المؤمنين إلى التفقه في الدين؛ فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122)، وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
وللعلم بالكتاب والسنة طرق، وآلات، من يسرها الله له،وأراد به خيرا فَقُه في دين الله، ومن تنكب تلك الطرق، وحرم آلات العلم، لم يعرف دينه؛ ومن لم يعرف دينه، لا يكون فقيها، ولا طالب فقه.
فمن طرق اكتساب العلم، التعلم؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122). وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه). فالعلم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم سبيله بذل الجهد في طلبه،والأخذ من أفواه العلماء الربانيين؛ المشهورين بالديانة، المعروفين بالستر والصيانة؛ الذين قد ارتقت في العلم درجتهم، وعلت فيه منزلتهم. ولا يكون العالم ربانيا إلا إذا عمل بعلمه؛ قال ابن الأعرابي: " إذا كان الرجل عالما، عاملا، معلما، قيل له رباني، فإن خرم خصلة منها، لم يقل له رباني " وكذلك يؤخذ العلم عن الأكابر؛ فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا" ولا يؤخذ عن مبتدع،ولا كذاب،ولا سفيه؛كما قال الإمام مالك:"لا يؤخذ العلم عن أربعة:سفيه يعلن السفه، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به ".
ومن آلات العلم، الذكاء، وسرعة الفهم؛ فإن الإنسان إذا رزقه الله تعالى الذكاء، سهل عليه طلب العلم، وعقل مسائله؛ وإذا لم يكن كذلك لا يستطيع أن يحقق بغيته. قال ابن المعتز: "كما لا ينبت المطرُ الكثيرُ الصخرَ،كذلك لا ينفع البليد كثرة التعليم" وبهذا نعلم أن قلة الفقه في الدين تحصل بسبب نقص الآلة،وعدم التفقه في نصوص الوحي، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالطرق المعتبرة. فالإنسان إذا طلب العلم ممن لم ترسخ في العلم قدمه، أو كان صاحب هوى وبدعة، أو استقل بنفسه في الطلب، واكتفى بمطالعة الكتب، كان حريا ألا يصل إلى مرتبة الفقه في دين الله روى الخطيب البغدادي عن سليمان بن موسى قال: "لا تقرؤا القرآن على المُصَحِّفين، ولا تأخذوا العلم من الصَّحفيين" وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، وبالإسناد القوي من الضعيف، فيجوز له أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها؛ يفتي به ويعمل به ؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم ".
إن الإسلام دين يدان به لله عز وجل، وهذا الدين لا يتم إلا بعلم مستقى من مشكاة النبوة؛ ولذلك فإن من الواجب على الإنسان أن يجتهد في اختيار من يأخذ عنه العلم؛ كما قال الإمام مالك: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم ".
بعض الآثار المترتبة على قلة الفقه في الدين:
1. ترؤس الجهّال:
إن من أعظم ما تبتلى به الأمة، ويفرق كلمتها، ويشتت صفها أن يتصدى لإرشاد الناس، ودعوتهم، وتعليمهم أمور دينهم من لم يكن من الراسخين في العلم، أو كان صاحب هوى وبدعة؛ لأن مثل هذا يفسد أكثر مما يصلح. أخرج البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا).
2. عدم معرفة مقاصد الشرع:
وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا عندما قال له الرجل: اتق الله يا محمد !، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ في عَقِبِ هَذَا - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، فهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن، ولم يتفقهوا فيه، ولم يعرفوا مقاصده. إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسان عربي مبين، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ولذلك فإن طلب فهم القرآن إنما يكون من هذا الطريق، فإنه لا يعلم من إيضاح جُمَلِ عِلمِ الكتاب أحدٌ جهل لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانه.
وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على من يتكلم في القرآن والسنة أن يكون له بصر بلسان العرب، ومعرفة بأساليبهم، وطرائق كلامهم. قال الشاطبي "فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي أديت به، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل العربية بأنه يستحق النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها. فإن ثبت على هذه الوصاة،كان ـ إن شاء الله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام".
إنَّ تكلُّم من لا يعرف لسان العرب في أمور الشرع، واستنباطه الأحكام دون أن يتمكن من آلة فهم الكتاب والسنة يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والقول على الله بغير علم.
3. اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة وترك المحكم:
قاعدة الشريعة، وطريقة الراسخين في العلم الإيمان بالكتاب كله محكمه ومتشابهه؛ كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} (آل عمران:7) أخرج الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم؛ باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً،بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه).
فقد دلت هذه النصوص على أن في كتاب الله من لا يفهمه إلا من رزقه الله الفهم والبصيرة؛ فإن التشابه الذي لا تمييز معه، قد يكون من الأمور النسبية الإضافية؛ بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، فليس لكل أحد أن يقول فيه برأيه بل يكله إلى عالمه. قال الربيع بن خثيم: "يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم، فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم، فكله إلى عالمه، ولا تتكلف؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (صّ:86 ـ 88).
إن ضلال كثير من أصحاب الغلو، وانحرافهم كان بسبب ردهم للمحكمات من النصوص، وأخذهم بالمتشابهات. قال عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " وبين الشاطبي ذلك بقوله: " ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا: كيف رأي ابن عمر صلى الله عليه وسلم في الحرورية ؟ قال: يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين. فسرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(المائدة: من الآية44)، ويقرنون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(الأنعام: من الآية1)، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق، قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه،(ومن عدل بربه) فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون، فيخرجون فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية ".
4. الأخذ ببعض الأدلة وترك ما سواها:
إن طريق الأئمة الراسخين في العلم النظر في جملة أدلة الشريعة،ومن ثم استخراج الحكم؛ لأن أدلة الشرع كلية وجزئية،وعام وخاص، ومطلق ومقيد، فاستخراج حكم قضية من القضايا يحتاج إلى النظر في الأدلة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها؛ لأن أخذ الحكم من دليلٍ دون نظرٍ إلى ما يعارضه، أو يقيده، أو يخصصه،أو تطبيق الحكم دون النظر في تحقق المناط، يؤدي إلى نتائج خاطئة، وأحكام غير صحيحة، وضرب للأدلة ببعضها.
لقد كانت نتيجة مثل هذا النظر في الأدلة مؤلمة وقاسية على الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها،فقد أُخرِج أقوام من دين الله، وسُفكت دماء،واستحلت أموال، وانتهكت أعراض، وخُربت أوطان،وتسلط ظلوم غشوم طاغ على بلاد المسلمين،وأحال أمنهم خوفا،وعزهم ذلا،وغناهم فقرا.
5. عدم النظر إلى مآلات الأفعال:
قاعدة الشريعة التي لا تنخرم، تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ ولذلك كان النظر إلى ما يؤول إليه الفعل،وهل يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة ؟ من الفقه في دين الله.
والأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108)، فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور.
يقول الشاطبي - رحمه الله -: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا؛ كانت الأفعال موافقة، أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام،إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ (فقد يكون) مشروعا لمصلحة فيه تستجلب،أو لمفسدة تدرأ،ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية،فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة، أو تزيد عليها،فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية،ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي،أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق،محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة".
وعملا بهذا الأصل لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم عَبْد اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ حينما قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، وعلل ذلك بقوله: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) ولم يهدم البيت ثم يعيده على بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال لعَائِشَةَ - رضي الله عنها-: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْج
الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ثم بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسوله، فلا بد من شكر من كان له فضلٌ في ترتيب هذا اللقاء وتنظيم هذا الاجتماع في هذا البيت من بيوت الله.
ومن أخص من يخص بالذكر فضيلة إمام المسجد الشيخ حمد المطوع ، والشيخ تركي بن قعود ، وآخرين من ورائهم لا تعلمونهم الله يعلمهم!
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي كل محسن بإحسانه ويثيبه، ويجعل هذا الاجتماع مقرباً إلى رضوانه، وأن يكتب لنا ذلك في ميزان حسناتنا؛ ما كان منه من صواب، وما كان سوى ذلك، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو ويسامح.
أيها الإخوة: الموضوع الذي اختير لهذا اللقاء، وقد اختاره الإخوة هنا، اختاروه بعنوان: التفقه في الدين فضله ووسائله.
وهو موضوع لا شك جدير بالاهتمام، وجدير بالنظر، وجدير بالتذاكر فيه، ولا شك أنهم ما اختاروا هذا إلا لما لهم من خبرة، ولما يعرفونه من حاجة الناس إلى مثل هذا.
ويكفي لجاذبيته وبيان أهميته: عنوانه (التفقه في الدين) فهو متضمن لكلمتين عظيمتين التفقه والدين، التفقه مضافاً إلى الدين، ولهذا سوف يأتي معنا في ثنايا الحديث إشارات كثيرة، وبخاصة عند قوله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين }؛ فإن هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أوتي جوامع الكلم- على وجازتها وعلى قلة ألفاظها، فإنها مليئة بالمعاني كما سوف نشير ولا نستبق الأحداث.
أرجو أن يتسع الوقت للحديث عن جملة من العناصر؛ أذكرها تذكيراً بها: منها التفقه في الدين من حيث معناه، ثم بيان ما كان منه فرض عين وما كان فرض كفاية، ثم إِشارة إلى طبيعة العلم النافع وآثار هذا العلم، وقد يكون فرصة لأن يختبر الإنسان نفسه في هذا الباب، ثم إشارة إلى صفات طالب العلم والفقه؛ صفات على جهة الإجمال، ثم صفات على جهة التفصيل تتضمن الوسائل.
وقبل ذلك فضل العلم وشرف مرتبته؛ لأن العنوان -كما تعرفون- متعلق بالفضائل والوسائل، ثم وسائل عملية، وهي فيها إشارة إلى الصفات ولكنها في الواقع وسائل، منها ما هو وسائل معنوية لا يكاد يتحقق الفقه الحقيقي إلا بها، من الإخلاص والخشية والعمل بالعلم، ثم التلقي عن المشايخ، وسوف يكون لنا فيه وقفة، ثم التواضع وعدم الاستنكاف من تلقي العلم في أي زمن من العمر ومن أي عالم مهما صغر سنه أو لم تكن لك به معرفة من قبل.
ثم مبادرة الشباب، وفرص العمر، والبعد عن الشواغل والتسويف، ثم الأدب لتلقي العلم، ثم عدم التعجل في التصدر، ثم قول لا أدري، ثم عدم الاستنكاف عن السؤال مهما بلغ الإنسان من مراحل علمه وتعلمه.
وهذا إجمال لما سوف يكون الحديث عنه، ولعل الوقت يتسع لكل ذلك، وإن لم يكن فأرجو أن آتي عليه ولو على شيء من الإجمال.
تعريف التفقه
التفقه مأخوذ من الفقه، والتفقه ذاته جاء في خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، أما خبر الله فقوله سبحانه: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
فجاء النص على التفقه في الدين بذاته.
أما خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين } .
ولاحظوا أن الآية والحديث كلها ربطت الفقه بالدين، فلا يكون الفقه نافعاً ولا مفيداً إلا حينما يكون مرتبطاً بالدين، وسوف يكون لنا -كما قلت- وقفات عند هذا.
والتفقه مأخوذ من الفقه، والفقه هو الفهم، ولهذا يقول الله عز وجل في المنافقين: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78].
وسوف يأتي معنا كلام جميل لـابن القيم في الفرق بين العلم النافع وغير النافع، بين علم منفي وعلم مثبت.
وصف الله تعالى المنافقين بأنهم لا يفقهون حديثاً، مع أنهم يفقهون ولهم عقول ويفهمون، لكن ما هو الفقه الذي لا يفقهونه؟
يقول الله عز وجل في سحرة اليهود: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].
في أول الآية أثبت لهم العلم، وفي آخرها نفاه عنهم فما هو الفقه المثبت والمنفي؟
لهذا فإن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه لما رأى الناس فتحت وتوسعت عليهم الدنيا، ورأى الانكماش في طلب العلم ذهب يصيح: [[أيها الناس! ميراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم في المسجد .
ففرحوا لمحبتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل واحد ترك بضاعته وشغله، وجاءوا يجرون, وكلٌ يريد أن يأخذ مما تبقى من أشيائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن كانت آنية أو أي شيء من سلاحه ولو من شعره، فهذا مما يتبرك به.
جاءوا وجلسوا وإذا به يقول : حدثني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.., فقالوا: أين الميراث يا أبا هريرة ؟! قال: هذا الميراث، ما ورث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا العلم.. وهذا الهدى.. وهذا النور، ونحن إليه أحوج من كل ميراث ))
وكما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه قد يعيش الناس بلا أطباء، ويتداووا بما يسر الله لهم من أعشاب أو مما تعارفوا عليه، والمهم أن يكون حلالاً، لكن هل يمكن أن يعيش الناس وتستقر وتهنأ وترغد حياتهم بلا علم أو بلا علماء؟!
ولهذا بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العلم قال: )) إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً يأخذه من صدور العلماء، ولكن ينزعه بموت العلماء، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وقد خص بالدعوة بالفقه في الدين : ربيب بيت النبوة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ) .
فصار ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ترجمان القرآن وحبر الأمة وبحرها الذي لا ينزف .
وعظمة هذا العلم وشرفه تَجلّ عن الوصف والإحاطة، ذلك أنها أحكام تساير المسلم وتلازمه في عموم مسالك حياته فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين عباده .
فبها يشد حبل الاتصال بعبادة ربه في علانيته وسرّه ؛ من طهارة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج ومناسك.
وبها ينشر راية الإسلام ويرفع منار القرآن وذلك في فقه الجهاد، والمغازي، والسير، والأمان، والعهد ، ونحو ذلك .
وبها يتطلب الرزق المباح، ويبتعد عن مواطن الإثم والجناح ، وذلك في فقه المعاملات من بيع وشراء، وخيار، وربا،
فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ، ومن أسباب السعادة للعبد ، ومن علامات النجاة والفوز أن يفقه في دين الله ، وأن يكون فقيها في الإسلام ، بصيرا بدين الله على ما جاء في كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد ،،
فإن من أهم الجوانب التي ينبغي التركيز عليها مبحث الفقه في الدين ، سيما في هذا الزمن الذي اختلط فيه الحابل بالنابل ، وكثر عدد المتعالمين والمفتين ، و أصبح الدم رخيصاً ، بناء على فتاوى سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان ، ذلك أن الفقه في الدين يجعل المرء المسلم ثابتاً على قمة الوسطية بعيداً عن طرفي الإفراط والتفريط ، إذ الحق حسنة بين سيئتين .
وبما أن الشباب-بصفة خاصة- هم صفوة المجتمع وموجهو المستقبل ، وصانعوا عقول الأجيال القادمة ، كان لزاماً أن يكونوا فقهاء بدينهم ، وواقعهم حريصين على مصالح بلدانهم ، يوازنون بين المصالح والمفاسد ، ويفقهون أدب الخلاف ، ويبلغون الخير للغير بحكمة وموعظة حسنة وهذا هو سر اختيار هذا الموضوع وضرورته .
المقصود بالفقه :
الفقه في اللغة : العلم بالشيء والفهم له والفطنة فيه ، وهو في الأصل : الفهم ، يقال : أوتي فلان فقهاً في الدين أي فهماً فيه ، وفقه فقهاً : بمعنى علم علماً ، وفقه بالكسر : فهم ، وغلب على علم الدين لشرفه (1) .
وفي الاصطلاح : العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية (2) ، والمراد بالفقه في هذه الورقة اللغوي لا الاصطلاحي .
وأقصد بالفقه في الدين : فهم المراد من نصوص الشرع سواء كانت النصوص تتعلق بمسائل الأصول أو مسائل الفروع وتقديم الآراء والحلول لما يجد من أشياء وأمور ، استناداً للنصوص الشرعية والفقه فيها وهذا الفهم يفهم في ضوء قول النبي صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ، بعد ما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان ، مع قول )) من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ))(3) والآثار الأخرى .
لماذا الفقه ؟
1. لتوافر النصوص الشرعية الواردة في بيان فضل الفقه في الدين والترغيب فيه ومن ذلك : - قوله تعالى : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (4) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )) (5) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .. الحديث (6) ، وفي لفظ (( خيارهم إسلاماً ، أحاسنهم أخلاقاً إذا فقهوا )) (7) ، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله : (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )) ( .
2. لأن جل الأخطاء التي تقع في هذا العصر وتنسب إلى الإسلام تقع بسبب جهل المرتكبين لها بدينهم وعدم فقههم له .
3. ولأن هذا الدين هو الدين الشامل الكامل الخاتم الذي لا يقبل الله يوم القيامة ديناً سواه {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (9) ، فكان لا بد من بيانه للناس كما أنزل ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .
4. لأن طلبة الجامعات والكليات هم موجهو الأجيال وبناة أفكارهم في المستقبل فلا بد من تأصيل هذه المسألة لديهم وفقههم لها ، إذ يصعب إحاطتهم بكل أصول الدين وفروعه ، غير أن فقههم لمقاصد الشريعة ، وفقه الموازنات والأوليات وفقه أدب الخلاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من مسائل الفقه الكلية مقدور عليه .
5. لأن الأمة تبتلى في كل عصر بغلاة وجفاة وقد قيل ضاع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه) ، وفي هذا العصر ابتليت الأمة بالغلاة من دعاة التكفير والتفجير والتدمير ، وبالمتفلتين المستغربين دعاة التجديد المطلق والتحلل من كل القيم والانسياق وراء أطروحات الغرب والشرق فكان لا بد من تأصيل وتعميق مبدأ الفقه في الدين في عقول أبناء الأمة ليحد الغلاة ويقصر المتفلتون ويلتقي الطرفان في وسطية الإسلام .
شمولية الفقه :
ليس الفقه شيئاً واحداً بل هو متنوع شامل فمن ذلك فقه المقاصد والنيات ، وفقه الموازنات والأوليات ، وفقه الاختلاف ، وفقه سماحة الإسلام ويسره ، وفقه الواقع ، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفقه الدعوة ، وفقه الثوابت والمتغيرات .. وغير ذلك .
وسأشير في هذا البحث المختصر إلى المقصود بيانه من كل نوع من هذه الأنواع بشيء من الإيجاز والإيضاح :
أولاً: فقه المقاصد والنيات
والمقصود بهذا الفقه مراعاة قصد المتكلم ونيته قبل الحكم عليه ، وبيان أثر النية والقصد عند التعامل مع الآخرين ويشمل ذلك قواعد عدة منها :
القاعدة الأولى :
مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في موضع واحد وهو الحلف فإنه على نية المستحلف ، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم : (( وإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ))( 10) . ويدخل في هذه القاعدة في باب التطبيق والتعامل مع الآخرين أن المسلم الورع ينقل ما يصدر عن الآخرين من عبارات ومقولات كما صدرت دون تعرض للمعنى ويعلل ذلك ابن الوزير بأن حكاية كلام الخصوم بالمعنى فيه ظلم لهم لأن الخصم اختار لفظاً وعبارة ارتضاها لبيان مقصده .
ويدخل في ذلك عدم اتهام النيات إذ اللفظ على نية اللافظ ، ومن قواعد الإسلام أن القلوب علمها عند الله وعلى الناس ألا يأخذوا إلا بالظاهر والله يتولى السرائر . والأصل في ذلك أحاديث عدة منها :-
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) (11) ، وفي حديث أبي سعيد الخدري في ذكر أوصاف الخوارج ، وقول خالد رضى الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ((وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق عن بطونهم ))(12) وغير ذلك .
القاعدة الثانية :
يغتفر في الوسائل مالا يغتفر في المقاصد ؛ وتعني هذه القاعدة أن حكم الوسيلة إلى الشيء يختلف عن حكم الغاية والمقصد - ولا يعني ذلك المقولة المشهورة المرذولة(الغاية تبرر الوسيلة) - بل الأمر عند المسلم يختلف فوسيلته وغايته شرعيتان ويمكن التمثيل لهذه القاعدة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً )) (13) فالكذب لإصلاح ذات البين جائز ، إذ هو وسيلة لمقصد عظيم وهو الإصلاح بين الناس مع أن الكذب في أصله غير جائز .
وخلاصة هذه القاعدة أنه لا بد من التفريق بين الأحكام المتعلقة بالوسائل والأحكام المتعلقة بالمقاصد ؛ وهذه القاعدة لها تعلق عند التطبيق بحسن الظن بالمسلمين وحمل ما يصدر عنهم على المحمل الحسن سيما إذا كان من أهل الخير والصلاح ويمكن التمثيل لهذه القضية بقصة حاطب بن أبي بلتعة في كتابته لكفار قريش .
القاعدة الثالثة :
الحكم مترتب على القصد . ويقصد بهذه القاعدة أن من عمل عملاً ولم ينوه أو يقصده لعارض كالنوم أو النسيان أو الخطأ فإن هذا العمل لا يترتب عليه من الآثار والأحكام ما يترتب على من قصد العمل وأراده ، والأصل في ذلك قول النبي : (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))(14) .
والغرض من تأصيل هذا الفقه بيان المنهج الشرعي في التعامل مع ما يصدر من أهل العلم والفضل مما ظاهرة الزلل والخطأ والتفريق بين المتعمد لذلك وبين من لم يقصد الخطأ .
ثانياً: فقه أدب الخلاف
والمقصود بهذا الفقه بيان المنهج الشرعي في التعامل مع المخالف سواء كان مسلماً أو كافراً ، وبيان آداب الحوار مع الآخرين ، والقضاء على ظاهرة الإقصاء واحتكار الحقيقة المطلقة .
والمخالفون أنواع وأصناف شتى من الناس ولكنهم على اختلافهم ينقسمون إلى قسمين :
1- المخالف المسلم .
2- المخالف الكافر .
والمسلم مطالب بالالتزام بأخلاق الإسلام في التعامل مع المخالفين وهذا مرهون بأمرين :
1- الفقه الشرعي والمعرفة الصحيحة بالأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوع .
2- الأخلاق النفسية الشخصية المستقرة داخل النفس .
والفقه الشرعي في هذه المسألة يسلتزم معرفة ثلاثة أمور :-
1- أقسام الاختلاف .
2- أسباب الاختلاف .
3- أدب الاختلاف .
الخلاف على نوعين : اختلاف تنوع واختلاف تضاد . واختلاف التنوع له صور كثيرة مبسوطة في مظان ذلك .
أصول عامة للتعامل مع الآخرين :
1- العدل .
2- الأخذ بالظاهر .
3- مرجعية الكتاب والسنة .
4- التثبت من المنقول قبل اتخاذ المواقف .
5- قبول الحق ممن جاء به .
أسباب الاختلاف :
1- طبيعة البشر وتفاوتهم في القدرة على الفهم والاستدلال .
2- طبيعة النصوص .
3- طبيعة اللغة .
4- عدم بلوغ الدليل للعالم أو الفقيه .
5- عدم ثبوت الحديث عند البعض وثبوته عند غيرهم .
6- النسيان .
7- الخطأ والوهم .
8- عدم العلم بالنسخ .
9- اختلافهم في دلالة النص .(15)
الدعائم الفكرية في فقه الاختلاف :
1- الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة .
2- إتباع المنهج الوسط وترك التنطع في الدين .
3- التركيز على المحكمات لا المشتبهات .
4- تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية .
5- ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء .
6- شغل المسلم بهموم أمته الكبرى .
7- فقه أصول المعاملة الشرعية الواجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم .
آداب وأخلاقيات الخلاف :
1- الإخلاص والتجرد من الأهواء .
2- التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف .
3- إحسان الظن بالآخرين .
4- ترك الطعن والتجريح .
5- البعد عن المراء واللدد في الخصومة .
6- الحوار بالتي هي أحسن .
مظاهر لمفاهيم مغلوطة في هذا الباب تنبئ عن عدم الفقه الدين :
1- الظن بأن المخالفة في الرأي توجب العداء والإيذاء .
2- الظن بأن المسلم المخالف لا يصح ذكر شيء من محاسنه أو العدل معه .
3- الظن بأن المسلم المخالف لا يصح إحسان الظن به .
4- الظن بأنه يجوز الحكم على عقائد الناس بالظن .
5- استباحة عدد من الأساليب المحرمة في التعامل مع المسلم المخالف .
6- الظن بأن المسلم المخالف لا يصح التعامل معه أو إعطاؤه شيئاً من الحقوق .
7- الظن بأن المسلم المخالف يجوز الكلام في عرضه .
8- زعم التقرب إلى الله تعالى بأذية المسلم لأخيه المسلم .
9- معارضة هذه الأوهام لما جاءت به شريعة الإسلام .
خلق التعامل مع المخالف الكافر :
ينقسم الكافر إلى محارب وغير محارب ولكل منهما أحكام :
مظاهر العلاقة بالكافر غير المحارب :-
1- كف الأذى والظلم وعدم التعدي (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ))(16)
2- التزام أصول الأخلاق في الإسلام معه من الصدق والأمانة والعدل وتحريم الغدر والظلم
3- جواز إيصال البر والمعروف الإنساني إليه ومن ذلك جواز الهدية لكن الإسلام في الوقت نفسه لا يسوي بين المسلم والكافر في مجال آخر هو مجال الدين وما يستلزمه من حقوق بين المسلمين ومجال ولاية الله ونصرته .
ولذا حرم الإسلام على المسلم أنواعاً من الأخلاق وصوراً من التعامل مع الكافر لعل أصولها ما يلي :-
أ- محبة الكافر ومودته لا تجوز ... وهذا حكم معلق بالأوصاف لا بالأشخاص .
ب- موالاة الكفار من دون المؤمنين .
مظاهر طبيعة علاقة المسلم بالكافر المحارب :
1- النهي عن البدء معهم بالقتال قبل الدعوة .
2- النهي عن الغدر والمثلة في القتال .
3- النهي عن قتل من لا تقتضي الجهاد في سبيل الله قتله كالصبيان والنساء .
4- تحريم إفساد الزروع والثمار وإحراق الدور .
مفاهيم مغلوطة في التعامل مع الكفار :
1- الانطلاق من الانفعالات والمواقف الشخصية .
2- الانطلاق من مفاهيم يظن أنها شرعية
3- الظن بأن أذية المسلم للكافر فيها أجر مطلقاً .
4 - الظن بأن التعامل الحسن مع الكافرين حرام .
5- اختلاط مفهوم التعامل الحسن بمفهوم الولاء .
6- الظن بأنه لا يجوز السلام على الكافر مطلقاً .
7 - الخلط بين تفضيل الإسلام وتفضيل الخلق الشخصي للمسلم(17) .
ثالثاً: فقه مقاصد الشريعة ومراتبها
المقصود بمقاصد الشريعة : هي الغايات التي أنزلت الشريعة لتحقيقها لمصلحة الخلق في الدارين .
المقصد العام للشريعة الإسلامية : عمارة الأرض ، وحفظ نظام التعايش فيها ، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها ، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة .
وما من حكم شرعي إلا وهو يحقق مصلحة أساسها المحافظة على النفس أو العقل أو الدين أو النسل أو المال ، وإن هذا يبدوا من الشريعة من جملة مقاصدها ، ولا يمكن أن يكون حكم شرعي إلا وهو متجه إلى ناحية من هذه النواحي .
مراتب مقاصد الشريعة :
اصطلح العلماء على تقسيم المقاصد إلى ثلاث مراتب :-
1- الضروريات .
2- الحاجيات .
3- التحسينات .
الضروريات : هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين .
والضروريات هي ما اصطلح على تسميته بالضروريات الخمس وهي : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فحفظ الدين من باب العبادات ، وحفظ النفس والعقل من باب العاديات ، وحفظ النسل والمال من باب المعاملات .
والحاجيات : هي المفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة . وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات . ففي العبادات : كالرخص المخفضة في السفر والمرض . وفي العادات : كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال . وفي المعاملات : كالقرض والمساقاة والسلم وغيرها .
أما التحسينات : فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق كإزالة النجاسة وستر العورة وأخذ الزينة .
وفي ضوء هذا التقسيم لا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بما هو ضروري أو حاجي ، لأن الفرع لا يراعي إذا كان في مراعاته والمحافظة عليه تفريط في الأصل ولذلك أبيح شرعاً كشف العورة عند الاقتضاء لأجل تشخيص داء أو مداوة أو عملية جراحية ضرورية لأن ستر العورة من الأمور التحسينية أما العلاج فمن الضروريات لأن حياته النفس أو العقل أو النسل . وبعد هذا التأصيل لهذا الفقه لنا أن نسأل : هل سمع دعاة التفجير والتدمير من خوارج العصر بهذا الفقه فضلاً عن امتثاله؟
وهل وازنوا بين المصالح والمفاسد عند ما دمروا وقتلوا ؟! وأي مصلحة راجحة أو مرجوحة خرجوا بها من جراء أعمالهم ؟
إنني أقول جازماً وبدون تردد لو أن هؤلاء القوم على دراية بأصول هذا الفقه ما دمروا وأفسدوا وقتلوا ، فهل بشك عاقل بعد ذلك في ضرورة هذا الفقه في مناهج تعليمنا العالي وغيره .
ومما يبنى على فقه المقاصد فقه آخر يسمى بـ : فقه الموازنات والأولويات : المراد بهذا الفقه : هو الفقه الذي يوازن بين المصالح بعضها وبعض مرجحاً الراجح على المرجوح ، ويقدم الأفضل على المفضول والأهم على المهم ، والواجب على المندوب ، والضروري على الحاجي ، والحاجي على التحسيني عند التعارض . وهو ذلك الفقه الذي يوازن بين المفاسد بعضها وبعض . وهو أيضاً الفقه الذي يوازن بين المصالح والمفاسد عند التعارض . يقول شيخ الإسلام ابن تيمه : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين .. إن اللبيب إذا بدى من جسمه .. مرضان مختلفان داوى الأخطرا(18) . والمراد بالتعارض بين المصلحتين تعذر تحققهما معاً .... والمراد بالتعارض بين المفسدتين تعذر دفع المفسدتين جميعاً . والمراد بالتعارض بين المصالح والمفاسد التلازم بينهما .
ولدفع هذا التعارض يجب مراعاة القواعد التالية :-
القاعدة الأولى : إذا تعارضت مصلحتان وتعذر الجمع بينهما وتحصيلهما جميعاً ، وجب تفويت المصلحة الصغرى لتحصيل المصلحة الكبرى . كمن أصاب يده مرض وقرر الأطباء بترها . وقد دل عليه من القرآن قول الله تعالى : {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي{(19) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما : (( لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين)) ... الحديث(20)
القاعدة الثانية :إذا تعارضت مفسدتان وتعذر درءهما جميعاً بل لا بد من الوقوع في إحداهما ، فحينئذ يجب ارتكاب المفسدة الصغرى في سبيل دفع المفسدة الكبرى مثل : تعارض مفسدة ذهاب المال مع مفسدة ذهاب الدين أو النفس ، ومثل خرق الخضر للسفينة حتى لا يأخذها الملك الظالم .
القاعدة الثالثة : إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ولذلك صور :
1. أن تكون المفسدة أكبر من المصلحة .
2. أن تتساوى .
3. أن تكون المصلحة أكبر .
ومثل ذلك قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ { (21).
نماذج من الموازنات :
• استخلاف أبي بكر الصديق قبل دفن النبي صاى الله عليه وسلم.
• حصار المسلمين لمدينة تستر والصلاة بعد طلوع الشمس .
• ما حدث للمسلمين في بيروت عندما أرادوا فك الحصار عن إخوانهم في عكا .
وهذه المواقف مبسوطة في كتب التاريخ .
رابعاً: فقه سماحة الإسلام ويسره
والمقصود من هذا الفقه تأصيل المبادئ التالية :-
1. ليس من مقاصد الإسلام تحري المشقة وجلب العسر .
2. لا تكليف إلا بما يستطاع .
3. عموم الشريعة زماناً ومكاناً وأشخاصاً .
4. أن التشدد والغلو ليس شرعة المسلمين وإنما هو شرعة من قبلهم .
5. أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .
6. أن القاعدة الشرعية ( المشقة تجلب التيسير ، والأمر إذا ضاق اتسع ) . وذلك أن النصوص الشرعية قد تواترت على الترغيب في التيسير ونبذ الغلو والتنطع .
خامساً: فقه الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذا الفقه مستخلص من قوله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(22) وقوله تعالى : {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }(23) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى عندما أرسلهما إلى اليمن : (( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ...)) الحديث
وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى قواعد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبسوطة في كتب الدعوة والحسبة تكتب بماء الذهب .
فمن تلك القواعد من باب التمثيل لا الحصر :
في باب إنكار المنكر :-
1. تقديم الأهم على المهم .
2. التدرج بالإنكار .
3. ألا يترتب على إنكار المنكر ماهو أنكر .
4. ألا يكون المنكر من مسائل الخلاف السائغ . إلى غير ذلك مما هو مبسوط في مظانه .
وفي باب الدعوة :-
1- الحكمة والرفق .
2- مراعاة عقول الناس وأفهامهم .
3- مراعاة الظروف والأحوال ... إلى غير ذلك .
سادساً: فقه الثوابت والمتغيرات .
والمقصود بالثوابت : القطعيات ومسائل الإجماع ، بالإضافة إلى بعض الاختيارات العلمية الراجحة ، التي تمثل مخالفتها نوعاً من الشذوذ والزلل .
والمتغيرات : هي الظنيات وموارد الاجتهاد ، وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح .
والمقصود بفقه الثوابت والمتغيرات معرفة ذلك ، وفهم المنهج المعتبر لدى أهل العلم في التعامل مع كل منهما والهدف من معرفة ذلك بيان ما ينعقد الولاء والبراء عليه ، وبين ما يسع الأمة فيه ما وسع من سبقهم من خيار الأمة فيتكلم فيه كل بما عنده من حجج وبينات مع بقاء الألفة والعصمة في الدين .
كما أن من أهداف هذا الفقه بيان أن الثوابت لا مجال فيها للتطوير والاجتهاد ، ولا يحل الخلاف فيها لمن علمها . قال الشافعي : (( كل ما أقام به الله الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه ))(24) بخلاف المتغيرات والوسائل .
ويبين الشيخ القرضاوي الفرق بين الثوابت والمتغيرات فيقول : ( فمن أحكام الدين ما يتعلق بالعقائد التي تحدد نظرة الدين إلى المبدأ والمصير ، إلى الله والكون والحياة والإنسان ، أو ما يسميه علماء العقائد عندنا : الإلهيات والنبوات والسمعيات) .
وهذه حقائق ثابتة لا تتغير . ومنها ما يتعلق بشعائر العبادات الرئيسية التي تحدد صلة الإنسان العملية بربه ، وهي التي تعتبر أركان الإسلام ومبانيه العظام ، وهذه في أسسها العامة ثابتة ، وإن كان الاجتهاد يدخل عليها في كثير من التفاصيل . ومنها ما يتعلق بالقيم الخلقية ، ترغيباً في الفصائل وترهيباً من الرذائل ، وهذه تتميز بالثبات أيضاً في مجموعها . وهذه الثلاثة لا يحتاج الناس إلى تغيرها ، بل إلى ثباتها واستقرارها لتستقر معها الحياة وتطمئن العقول والقلوب .
بقى أمر نظم الحياة المختلفة ، مثل نظام الأسرة والمواريث ونحوها ، ونظام المعاملات والمبادلات المالية ، ونظام الجرائم والعقوبات ، والأنظمة الدستورية والإدارية والدولية ونحوها ، وهي التي يفصل أحكامها الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه . وهذه ذات مستويين :
- مستوى يمثل الثبات والدوام : وهو ما يتعلق بالأسس والمبادئ والأحكام التي لها صفة العموم وهو ما جاءت به النصوص القطعية الثبوت ، القطعية الدلالة ، التي لا تختلف فيها الأفهام ، ولا تتعدد الاجتهادات ، ولا يؤثر فيها تغير الزمان والمكان والحال .
- ومستوى يمثل المرونة والتغير : وهو ما يتعلق بتفصيل الأحكام في شئون الحياة المختلفة ، وخصوصاً ما يتصل بالكيفيات والإجراءات ونحوها ، وهذه قلما تأتي فيها نصوص قطعية ، بل إما أن يكون فيها نصوص محتملة ، أو تكون متروكة للاجتهاد ، رحمة من الله تعالى غير نسيان )(25) .
والخلاصة أن الهدف من تأصيل هذا الفقه وضع قواعد ثابتة دائمة لجيل المستقبل حتى لا ينساقوا مع دعاة التجديد والعصرانين الذين ينادون بنسف كل قديم ، وتغيير كل ثابت ، بل ليس ثمة ثوابت عندهم ، كما لا يقعوا في شراك الجامدين على المألوف القديم ونبذ كل جديد حتى وإن كان في الوسائل والأساليب وفيه مصلحة راجحة للأمة ، بل الوسطية في هذا الأمر وغيره هي المنهج الشرعي الدائم الذي يبين المولى عز وجل أنه من أخص صفات هذه الأمة : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }(26)
وبعد : فإن المقصود بيانه في هذا المبحث أن الفقه في الدين ضرورة ملحة في زمن الفتن والعولمة . وأن الفقه في الدين شامل ومتنوع وليس حكرا على ما يتبادر الذهن إليه ويعرفه عامة المسلمين من أنه فقه الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية . وأن المقصود من دراسة جوانب هذا الفقه الشامل تحصين شباب الأمة وموجهي أجيالها من غلو المفرطين وتفلت المفرطين وبيان المنهج الوسط لهم في ذلك . وأن ما ذكر من أنواع الفقه في هذه البحث ليس للحصر بل للتمثيل فهناك أنواع أخرى من الفقه لم أتطرق إليها مثل :-
• فقه الواقع أو ما يسمى بفقه المرحلة .
• فقه النوازل .
• فقه السنن الإلهية .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
من أسباب الانحراف الفكري قلة الفقه في دين الله
إبراهيم بن عبدالله الزهراني
الدين الإسلامي مبناه على الوحي؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} (الأنبياء:45)،وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: من الآية113).
وفرض الله على الناس اتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد دل القرآن على أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو مطيع لله؛ كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80) وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31). فإقامة الدين على الوجه المطلوب شرعا لا تحصل إلا بالعلم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال أبو حمزة البزاز: " من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلا متابعة الرسول في أقواله، وأفعاله، وأحواله" ولذلك أمر المولى تبارك وتعالى بطلب العلم؛ فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)، وندب المؤمنين إلى التفقه في الدين؛ فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122)، وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ).
وللعلم بالكتاب والسنة طرق، وآلات، من يسرها الله له،وأراد به خيرا فَقُه في دين الله، ومن تنكب تلك الطرق، وحرم آلات العلم، لم يعرف دينه؛ ومن لم يعرف دينه، لا يكون فقيها، ولا طالب فقه.
فمن طرق اكتساب العلم، التعلم؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122). وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه). فالعلم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم سبيله بذل الجهد في طلبه،والأخذ من أفواه العلماء الربانيين؛ المشهورين بالديانة، المعروفين بالستر والصيانة؛ الذين قد ارتقت في العلم درجتهم، وعلت فيه منزلتهم. ولا يكون العالم ربانيا إلا إذا عمل بعلمه؛ قال ابن الأعرابي: " إذا كان الرجل عالما، عاملا، معلما، قيل له رباني، فإن خرم خصلة منها، لم يقل له رباني " وكذلك يؤخذ العلم عن الأكابر؛ فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا" ولا يؤخذ عن مبتدع،ولا كذاب،ولا سفيه؛كما قال الإمام مالك:"لا يؤخذ العلم عن أربعة:سفيه يعلن السفه، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به ".
ومن آلات العلم، الذكاء، وسرعة الفهم؛ فإن الإنسان إذا رزقه الله تعالى الذكاء، سهل عليه طلب العلم، وعقل مسائله؛ وإذا لم يكن كذلك لا يستطيع أن يحقق بغيته. قال ابن المعتز: "كما لا ينبت المطرُ الكثيرُ الصخرَ،كذلك لا ينفع البليد كثرة التعليم" وبهذا نعلم أن قلة الفقه في الدين تحصل بسبب نقص الآلة،وعدم التفقه في نصوص الوحي، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالطرق المعتبرة. فالإنسان إذا طلب العلم ممن لم ترسخ في العلم قدمه، أو كان صاحب هوى وبدعة، أو استقل بنفسه في الطلب، واكتفى بمطالعة الكتب، كان حريا ألا يصل إلى مرتبة الفقه في دين الله روى الخطيب البغدادي عن سليمان بن موسى قال: "لا تقرؤا القرآن على المُصَحِّفين، ولا تأخذوا العلم من الصَّحفيين" وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، وبالإسناد القوي من الضعيف، فيجوز له أن يعمل بما شاء، ويتخير ما أحب منها؛ يفتي به ويعمل به ؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم ".
إن الإسلام دين يدان به لله عز وجل، وهذا الدين لا يتم إلا بعلم مستقى من مشكاة النبوة؛ ولذلك فإن من الواجب على الإنسان أن يجتهد في اختيار من يأخذ عنه العلم؛ كما قال الإمام مالك: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم ".
بعض الآثار المترتبة على قلة الفقه في الدين:
1. ترؤس الجهّال:
إن من أعظم ما تبتلى به الأمة، ويفرق كلمتها، ويشتت صفها أن يتصدى لإرشاد الناس، ودعوتهم، وتعليمهم أمور دينهم من لم يكن من الراسخين في العلم، أو كان صاحب هوى وبدعة؛ لأن مثل هذا يفسد أكثر مما يصلح. أخرج البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا).
2. عدم معرفة مقاصد الشرع:
وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا عندما قال له الرجل: اتق الله يا محمد !، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا - أَوْ في عَقِبِ هَذَا - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، فهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن، ولم يتفقهوا فيه، ولم يعرفوا مقاصده. إن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسان عربي مبين، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ولذلك فإن طلب فهم القرآن إنما يكون من هذا الطريق، فإنه لا يعلم من إيضاح جُمَلِ عِلمِ الكتاب أحدٌ جهل لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانه.
وإذا كان الأمر كذلك، فيجب على من يتكلم في القرآن والسنة أن يكون له بصر بلسان العرب، ومعرفة بأساليبهم، وطرائق كلامهم. قال الشاطبي "فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي أديت به، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل العربية بأنه يستحق النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها. فإن ثبت على هذه الوصاة،كان ـ إن شاء الله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام".
إنَّ تكلُّم من لا يعرف لسان العرب في أمور الشرع، واستنباطه الأحكام دون أن يتمكن من آلة فهم الكتاب والسنة يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والقول على الله بغير علم.
3. اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة وترك المحكم:
قاعدة الشريعة، وطريقة الراسخين في العلم الإيمان بالكتاب كله محكمه ومتشابهه؛ كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} (آل عمران:7) أخرج الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم؛ باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً،بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه).
فقد دلت هذه النصوص على أن في كتاب الله من لا يفهمه إلا من رزقه الله الفهم والبصيرة؛ فإن التشابه الذي لا تمييز معه، قد يكون من الأمور النسبية الإضافية؛ بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، فليس لكل أحد أن يقول فيه برأيه بل يكله إلى عالمه. قال الربيع بن خثيم: "يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم، فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم، فكله إلى عالمه، ولا تتكلف؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (صّ:86 ـ 88).
إن ضلال كثير من أصحاب الغلو، وانحرافهم كان بسبب ردهم للمحكمات من النصوص، وأخذهم بالمتشابهات. قال عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " وبين الشاطبي ذلك بقوله: " ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا: كيف رأي ابن عمر صلى الله عليه وسلم في الحرورية ؟ قال: يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار، فجعلوها في المؤمنين. فسرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(المائدة: من الآية44)، ويقرنون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}(الأنعام: من الآية1)، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق، قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه،(ومن عدل بربه) فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون، فيخرجون فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية ".
4. الأخذ ببعض الأدلة وترك ما سواها:
إن طريق الأئمة الراسخين في العلم النظر في جملة أدلة الشريعة،ومن ثم استخراج الحكم؛ لأن أدلة الشرع كلية وجزئية،وعام وخاص، ومطلق ومقيد، فاستخراج حكم قضية من القضايا يحتاج إلى النظر في الأدلة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها؛ لأن أخذ الحكم من دليلٍ دون نظرٍ إلى ما يعارضه، أو يقيده، أو يخصصه،أو تطبيق الحكم دون النظر في تحقق المناط، يؤدي إلى نتائج خاطئة، وأحكام غير صحيحة، وضرب للأدلة ببعضها.
لقد كانت نتيجة مثل هذا النظر في الأدلة مؤلمة وقاسية على الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها،فقد أُخرِج أقوام من دين الله، وسُفكت دماء،واستحلت أموال، وانتهكت أعراض، وخُربت أوطان،وتسلط ظلوم غشوم طاغ على بلاد المسلمين،وأحال أمنهم خوفا،وعزهم ذلا،وغناهم فقرا.
5. عدم النظر إلى مآلات الأفعال:
قاعدة الشريعة التي لا تنخرم، تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ ولذلك كان النظر إلى ما يؤول إليه الفعل،وهل يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة ؟ من الفقه في دين الله.
والأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108)، فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور.
يقول الشاطبي - رحمه الله -: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا؛ كانت الأفعال موافقة، أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام،إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ (فقد يكون) مشروعا لمصلحة فيه تستجلب،أو لمفسدة تدرأ،ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية،فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة، أو تزيد عليها،فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية،ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي،أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق،محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة".
وعملا بهذا الأصل لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم عَبْد اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ حينما قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، وعلل ذلك بقوله: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) ولم يهدم البيت ثم يعيده على بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقال لعَائِشَةَ - رضي الله عنها-: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْج