رمضان المبارك
محمد رشيد رضا
نشر عام 1316هـ
استهلَّ هذا الشهر الشريف، وثبت بالرؤية شرعًا أنَّ أوَّله الجمعة، فأصبح المسلمون صائمين، فأهلاً بشهر أُنزل فيه القرآن، وهو أكبر نعمة من الله على نوع الإنسان؛ لأنَّه صدَّق المرسلين، وزعزع أركان الوثنيين، ووضع أصول الوحدة في الاعتقاد والاجتماع، ودعا إلى الحبِّ والتأليف، وأسَّس أركان العدالة في الأخلاق، والآداب النفسية والعملية، والأحكام القضائية والمدنية، وساوى بين الناس في الحقوق، وأعتقهم من رقِّ العبودية لغير الله، وتمَّم مكارم الأخلاق، وأرشد إلى الكمالات الروحية، مع عدم إهمال الحقوق الجدية، بل حثَّ على طلب سعادة الدارين معًا، وخاطب العقل، وجعله مشرق أنوار الدين، ونبَّه الناس إلى أنَّ للكون سننًا ثابتة لا تتبدَّل، وهداهم إلى مراعاتها، والاعتبار بها؛ ليصلوا إلى كمالهم النوعي.
فأجدر بالمسلمين أن يجعلوا القرآن في هذا الشهر سميرهم ومرشدهم وأميرهم، وأن يضمُّوا إلى قراءته وإقرائه، التدبر لآياته، والمذاكرة في معانيه الشريفة، والاعتبار بحكمه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لئلا يكون حجة عليهم، فما أقبح من يَقرأ أو يُقرأ عليه مثل قوله تعالى: {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]، وهو من الكاذبين، يسمع المقروء عليه وهو يكذب، ويفرغ القارئ من قراءته فيخوض في الكذب مع الخائضين، فيكون قد لعن نفسه.
أخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه)). وأخرجه أيضًا أبو نعيم والديلمي وله شواهد عند غيرهم... وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى للقرَّاء: (إنَّكم قد اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه، وتقطعون به مراحل، وإنَّ من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، وينفذونها بالنهار). وقال ابن مسعود الصحابي الجليل: (أُنزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا دراسته عملاً، إنَّ أحدكم لَيقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يُسقط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به).
وفي حديث ابن عمر وأبي ذر جندب الغفاري رضي الله عنهما قالا: لقد عشنا دهرًا، وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً، يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدَّقَل (الرديء من التمر).
قال بعض العلماء: يدلُّ قوله: (لقد عشنا)... إلخ على أنَّ ذلك إجماع من الصحابة. وفي حديث سعد عند ابن ماجه مرفوعًا: ((اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوْا)). قال الإمام الغزالي: (مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرَّره مثال مَن يكرِّر كتاب الملك في كلِّ يوم مرات، وقد كتب إليه في عمارة مملكته، وهو مشغول بتخريبها، ومقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت). فعسى أن يعير القراء والمستمعون هذه البينات التفاتًا، ولا يكتفوا بالتلذُّذ بالنغم، وحسن الصوت، والإلقاء.
أمَّا الصوم الذي هو عبادة الشهر فرياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية، وإشعار للغني المنعَّم، بحاجة الفقير المعدم، بحيث تتحرَّك عاطفة الشفقة بالإحسان إليه، ويعظم في نفسه مقدار نعمة الله عليه؛ لأنَّ الأشياء تُدرك قيمتها بفقدها، والأمور تُعرف بضدِّها، فمن غلبته الشهوة على نفسه، وملكت عليه أمره فلم يصم، فهو حيواني الطبع، يزاحم الخنزير والقرد في خاصيتهما، وإنَّ مِن الحيوان ما يمسك عن الطعام والشراب لعلة الشرف، فيقال: إنَّ الأسد لا يأكل من فريسة غيره.
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ... إذا كان الكلابُ ولغْنَ فيهِ
والذي يُفطر في رمضان أحد رجلين: إما كافر، لا يدين بالإسلام كبعض الذين قتلت أرواحهم أدواء التمدن الإفرنجي... وإما جهول لئيم ليس له من الإنسان إلا صورته، ولا من الدين إلا أنَّه من طائفة يُسمَّون مسلمين.
والصوم الصحيح يُهيِّئ الإنسان للتقوى، فتكون مرجوة منه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. [البقرة: 183].
ومن أدب الصيام كفُّ الجوارح كلِّها عن المحرَّمات، وأيُّ اعتبار للكفِّ عن الشهوات المباحة، كالأكل والوقاع في الحلِّ، مع الانهماك في الشهوات المحرمة، كالخوض في الباطل؛ من كذب وغيبة وفحش؟! وفي الحديث الصحيح: ((إنَّما الصوم جُنَّة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث- الرَّفَث محرَّكة: فحش في القول، والجماع ومقدماته- ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم)). (أخرجه الشيخان وغيرهما).
وقد ضرب الإمام الغزالي للصائم المنهمك في المعاصي مَثل مَن يبني قصرًا، ويهدم مصرًا، قال: فإنَّ الطعام الحلال يضرُّ بكثرته لا بتنوُّعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا تعداه إلى تناول السمِّ كان سفيهًا، والحرام مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضرُّ كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)). (أخرجه النسائي و ابن ماجه)...
اختيار: موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: (مجلة المنار)، المجلد الأول، عدد 43، رمضان 1316هـ. 1/829. بتصرف.
محمد رشيد رضا
نشر عام 1316هـ
استهلَّ هذا الشهر الشريف، وثبت بالرؤية شرعًا أنَّ أوَّله الجمعة، فأصبح المسلمون صائمين، فأهلاً بشهر أُنزل فيه القرآن، وهو أكبر نعمة من الله على نوع الإنسان؛ لأنَّه صدَّق المرسلين، وزعزع أركان الوثنيين، ووضع أصول الوحدة في الاعتقاد والاجتماع، ودعا إلى الحبِّ والتأليف، وأسَّس أركان العدالة في الأخلاق، والآداب النفسية والعملية، والأحكام القضائية والمدنية، وساوى بين الناس في الحقوق، وأعتقهم من رقِّ العبودية لغير الله، وتمَّم مكارم الأخلاق، وأرشد إلى الكمالات الروحية، مع عدم إهمال الحقوق الجدية، بل حثَّ على طلب سعادة الدارين معًا، وخاطب العقل، وجعله مشرق أنوار الدين، ونبَّه الناس إلى أنَّ للكون سننًا ثابتة لا تتبدَّل، وهداهم إلى مراعاتها، والاعتبار بها؛ ليصلوا إلى كمالهم النوعي.
فأجدر بالمسلمين أن يجعلوا القرآن في هذا الشهر سميرهم ومرشدهم وأميرهم، وأن يضمُّوا إلى قراءته وإقرائه، التدبر لآياته، والمذاكرة في معانيه الشريفة، والاعتبار بحكمه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لئلا يكون حجة عليهم، فما أقبح من يَقرأ أو يُقرأ عليه مثل قوله تعالى: {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]، وهو من الكاذبين، يسمع المقروء عليه وهو يكذب، ويفرغ القارئ من قراءته فيخوض في الكذب مع الخائضين، فيكون قد لعن نفسه.
أخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه)). وأخرجه أيضًا أبو نعيم والديلمي وله شواهد عند غيرهم... وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى للقرَّاء: (إنَّكم قد اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه، وتقطعون به مراحل، وإنَّ من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، وينفذونها بالنهار). وقال ابن مسعود الصحابي الجليل: (أُنزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا دراسته عملاً، إنَّ أحدكم لَيقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يُسقط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به).
وفي حديث ابن عمر وأبي ذر جندب الغفاري رضي الله عنهما قالا: لقد عشنا دهرًا، وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً، يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدَّقَل (الرديء من التمر).
قال بعض العلماء: يدلُّ قوله: (لقد عشنا)... إلخ على أنَّ ذلك إجماع من الصحابة. وفي حديث سعد عند ابن ماجه مرفوعًا: ((اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوْا)). قال الإمام الغزالي: (مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرَّره مثال مَن يكرِّر كتاب الملك في كلِّ يوم مرات، وقد كتب إليه في عمارة مملكته، وهو مشغول بتخريبها، ومقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت). فعسى أن يعير القراء والمستمعون هذه البينات التفاتًا، ولا يكتفوا بالتلذُّذ بالنغم، وحسن الصوت، والإلقاء.
أمَّا الصوم الذي هو عبادة الشهر فرياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية، وإشعار للغني المنعَّم، بحاجة الفقير المعدم، بحيث تتحرَّك عاطفة الشفقة بالإحسان إليه، ويعظم في نفسه مقدار نعمة الله عليه؛ لأنَّ الأشياء تُدرك قيمتها بفقدها، والأمور تُعرف بضدِّها، فمن غلبته الشهوة على نفسه، وملكت عليه أمره فلم يصم، فهو حيواني الطبع، يزاحم الخنزير والقرد في خاصيتهما، وإنَّ مِن الحيوان ما يمسك عن الطعام والشراب لعلة الشرف، فيقال: إنَّ الأسد لا يأكل من فريسة غيره.
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ... إذا كان الكلابُ ولغْنَ فيهِ
والذي يُفطر في رمضان أحد رجلين: إما كافر، لا يدين بالإسلام كبعض الذين قتلت أرواحهم أدواء التمدن الإفرنجي... وإما جهول لئيم ليس له من الإنسان إلا صورته، ولا من الدين إلا أنَّه من طائفة يُسمَّون مسلمين.
والصوم الصحيح يُهيِّئ الإنسان للتقوى، فتكون مرجوة منه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. [البقرة: 183].
ومن أدب الصيام كفُّ الجوارح كلِّها عن المحرَّمات، وأيُّ اعتبار للكفِّ عن الشهوات المباحة، كالأكل والوقاع في الحلِّ، مع الانهماك في الشهوات المحرمة، كالخوض في الباطل؛ من كذب وغيبة وفحش؟! وفي الحديث الصحيح: ((إنَّما الصوم جُنَّة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث- الرَّفَث محرَّكة: فحش في القول، والجماع ومقدماته- ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم)). (أخرجه الشيخان وغيرهما).
وقد ضرب الإمام الغزالي للصائم المنهمك في المعاصي مَثل مَن يبني قصرًا، ويهدم مصرًا، قال: فإنَّ الطعام الحلال يضرُّ بكثرته لا بتنوُّعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا تعداه إلى تناول السمِّ كان سفيهًا، والحرام مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضرُّ كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)). (أخرجه النسائي و ابن ماجه)...
اختيار: موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: (مجلة المنار)، المجلد الأول، عدد 43، رمضان 1316هـ. 1/829. بتصرف.