الهجرة من المدينة إلي العالم كله
أ.د عبد الحليم عويس* | 10-12-2010 21:57
ها هم صحابة رسول الله يهجرون الوطن والدور والأموال، ويضربون في الأرض، تارة إلي الحبشة، وتارة إلي المدينة، ومن المدينة إلي شتي الأمصار؛ من دمشق إلي بغداد، إلي مصر والمغرب، إلي بلاد ما وراء النهر. لقد حملوا في قلوبهم كتاب الله بقوة، وضموه إلي صدورهم، وكأنه كان يتنزل عليهم، وإياهم جاء يخاطب؛ يحرصون عليه حرصهم علي ماء عيونهم، ويرومون إيصال رسالته إلي كل إنسان، في أي مكان في العالم؛ حتي لو خاضوا إليه أشد البحار نأيا واستيحاشا.. ولقد قال عقبة بن نافع رضي الله عنه وهو علي شاطئ المحيط: لو علمت أن وراء هذا البحر ناساً، لخضت البحر إليهم؛ لأبلغهم رسالة الإسلام. وكما يقول صديقنا الكاتب الإسلامي التركي المبدع (أديب الدباغ): لقد ذهب المسلمون إلي العالم؛ لا لنشر الإسلام بين الآخرين فحسب، ولكن للإصلاح العقلي والروحي الذي ينشده هؤلاء الفتية لأنفسهم وللآخرين؛ وهم في الوقت نفسه يبشرون بطريقة جديدة للحياة؛ يتعاون فيها "العقل القرآني"- إذا صح التعبير- مع جدَّة التجربة، وشدة المعاناة التي تنقذ الإنسان من السطحية والتفاهة. وها هم الصحابة قد ضربوا في الأرض؛ لا يعرفون جبالا إلا قطعوها، ولا بلدانا إلا زاروها؛ لكي يخرجوا الناس من ظلمات الجاهلية إلي نور الإسلام، أو كما قال الصحابي (ربعي بن عامر) لرستم قائد الفرس: لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة. والداعية من هؤلاء الفتية- المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- سهل هين لين؛ لا يبني حول نفسه جدارا عقليا أو نفسيا، ولا يحيط نفسه بهالة فخمة لا يستطيع الآخرون أن ينفذوا منها إليه؛ بل هو علي استعداد دائم لقبول الآخرين، والاستماع إلي آرائهم، والإفادة من تجاربهم بكل صدق وحميمية. وعندما هاجر الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة في السابع عشر من صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة؛ لم يهجر قريشا ولا بني هاشم؛ فلقد كان يحب الجميع ويتمني لهم الهداية والخير؛ كما أنه، وهو الوفي- لم ينس لبني هاشم- مسلمهم وكافرهم- مواقفهم معه؛ عندما قادتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل، ودخلوا معه شعب بني هاشم؛ يقاومون معه ومع المسلمين الجوع والفاقة، ولا يمنون عليه بذلك؛ مع أنهم علي غير دينه؛ لكنه الولاء الأصيل الموروث للأرحام. لقد نظر إلي مكة ملتفتا إليها مودعا وقال: إنك أحب بلاد الله إلي الله، وأحب بلاد الله إلي؛ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. (هذا مع كل ما عملوه فيه؛ لكنه وفاؤه العظيم للوطن عليه السلام). > > > إنه من الضروري أن يفقه المهاجرون في عصرنا معاني هجرة الرسول والصحابة؛ فهي كتاب مفتوح؛ عليهم أن يمعنوا القراءة فيه ليدركوا منه أن هجرتهم من بلادهم لأي سبب من الأسباب؛ لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئة بينهم؛ بل يجب أن تبقي الصلة قائمة بينهم وبين الأهل والقوم؛ لا سيما ووسائل التواصل الآن في أقوي مستوي عرفته البشرية (عن طريق الهاتف والأنترنت، والبريد السريع الدولي، وغيرها) وبالتالي يكونون قد وصلوا الأرحام، وجمعوا بين الثلاثية المتكاملة؛ التي تمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تنفصم؛ وإلا فقدت الأمة مكانتها الخيرية؛ التي رفعها الله إليها عندما قال: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيراً لَهُم مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُم الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110). وعندما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً} (البقرة: 143). إنها ثلاثية: الإيمان، والهجرة، والاجتهاد. > إن الهجرة الإسلامية اليوم إلي أي بلد في العالم (إذا صح أنها هجرة ذات نية إسلامية وهدف إسلامي)؛ ولو كانت لطلب الرزق؛ (فإنما الأعمال بمقاصدها الشرعية وبنياتها) يجب أن تكون هجرة تسعي إلي التواصل والتعارف، والتحاور والحب؛ مع أهل الماضي والتراث من الوطن والرحم؛ بحيث يشعر كل الناس أن الأفراد المسلمين والمجموعات الإسلامية التي تعيش بينهم؛ إنما تمثل روحا جديدة لها أصالتها وعراقتها؛ تبني ولا تهدم، وتزرع الخير وتقاوم الشر. ولا تعرف التفرقة في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين، والوطني والوافد، والأبيض والأسود. > وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأي الناس في المسلم المهاجر إليهم- من خلال أقواله، وأفعاله، وإسهاماته الخدمية، وآفاقه المعرفية، وعبوديته لله- شخصية متميزة جادة، تفعل ما تقول، وتعيش معهم حياتهم اليومية، وآمالهم وآلامهم؛ وفية كل الوفاء لماضيها، حريصة علي قيمها وجذورها. > ومع الالتزام بهذا السلوك الرفيع فإن علي المسلم أن لا يتوقع أن يكون الطريق مفروشا بالورود؛ فإن طبيعة الدعاة إلي الله أن يجدوا مقاومة من أهل الباطل.. وهنا يظهر الداعية الحقيقي، ويرسب من يرسب وينجح من ينجح!! > > > لقد مكرت قريش بالرسول وتجمعت لقتله، ومكر الله لرسوله؛ فقد نزل جبريل عليه السلام إلي النبي [ بوحي من ربه تبارك وتعالي؛ فأخبره الله بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة المواجهة لمؤامرة قريش فقال له جبريل: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه. وقد أحاطت قريش- من خلال الممثلين الفتيان الأشداء للقبائل من الشباب- ببيت رسول الله؛ لكن خطتهم فشلت فشلا ذريعاً؛ مع غاية المراقبة والتيقظ والتنبه. لقد خرج رسول الله [ عليهم من البيت واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من التراب فجعل يذروها علي رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه... وهو يتلو قوله تعالي: {وَجَعَلْنَا مِن بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِن خَلْفِهِم سَدّاً فَأَغْشَينَاهُم فَهُم لا يبْصِرُونَ} (يس: 9)، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع الرسول صلي الله عليه وسلم علي رأسه ترابا، ومضي إلي بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا؛ حتي لحق- الاثنان- بغار ثور في اتجاه اليمن، وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر؛ وهم لا يدرون أن مكرهم كان مكر سوء، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله!! وكانوا كلما تطلعوا من كوة الباب رأوا إنساناً غير موضح المعالم ينام علي سرير الرسول فقالوا: والله؛ إن هذا لمحمد نائم؛ عليه برده؛ فلم يبرحوا كذلك حتي أصبحوا، وقام علي عن الفراش متثائبا كأنهم لا يحيطون به، ولا يتعرض لخطر الموت؛ لأنه كان يثق ثقة كاملة في قول الرسول [ له: "إنهم لن يصيبوك بأذي". ولما سألوه عن رسول الله [ قال: لا علم لي به. وقد غادر رسول الله [ بيته في ليلة 27 من شهر صفر، سنة 14 من النبوة؛ الموافق 12 / 13 سبتمبر 622م) وأتي دار رفيقه؛ الذي كان أقرب المؤمنين إليه، والذي بذل في سبيل الله كل ماله- أبي بكر الصديق رضي الله عنه- ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة علي عجل، قبل أن يطلع الفجر. > > > وثمة ومضات وعبر في الهجرة نكررها في كل عام لكننا نمر عليها مرور الغافلين.. إنه عليه السلام قد استأجر وثنياً هو (عبد الله بن أريقط) ليكون دليل الرحلة؛ ليضع حجر الأساس في علاقة دولة المدينة الواعدة الجديدة بالعالم..فهي دولة غير معقدة؛ لا تحمل أحقاداً، ولا تعرف عنصرية.. لا دينية ولا جنسية؛ وهي تمدّ يدها إلي العالم منذ البداية؛ في حوار حضاري تتكامل فيه الخبرات، ويقع التعارف الصحيح، القائم علي التكامل لا الصراع. وقد أخد الدليل (الوثني؛ ابن أريقط) ليثرب طريقا غير الطريق المألوف، فاتجه إلي يثرب عن طريق اليمن؛ لا الشام، مما يؤكد فراسة النبي في أن أهل الكفاءة يجب أن يقدموا علي أهل الثقة والولاء. مع استخدام أهل الثقة في مواضع محددة لا يشركهم فيها أحد... وبهما معا تسير الحياة صعودا إلي الأمام. لقد مشي الرسول في هذا الطريق نحو خمسة أميال حتي بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور؛ وهو جبل شامخ، وعر الطريق؛ صعب المرتقي، مليء بالصخور والأحجار الكثيرة، فحفيت قدما رسول الله [، وقيل: بل كان يمشي في الطريق علي أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد أعانه أبو بكر حتي بلغ به إلي الجبل، وطفق يشتد به حتي انتهي به إلي غار في قمة الجبل عرف في التاريخ (بغار ثور). فمكثوا ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ معهم، فلا يسمع أمرًا يكيدون به إلا وعاه حتي يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. وكان يرعي عليهما عامر بن فُهَيرَة مولي أبي بكر فيعطهما مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلي مكة ليعَفي عليه. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتي بالطعام والشراب... أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلي الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلي الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما وكان هذا منتهي إيذائهم لعلي.... ولما لم يحصلوا من علي علي جدوي جاءوا إلي بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدري والله أين أبي ؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها. وقد وضعت قريش جميع الطرق النافذة من مكة تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدلاً عن كل واحد منهما لمن يعيدهما إلي قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان. وقد وصل بعض المطاردين إلي باب الغار، ولكن الله أغشي أبصارهم، روي البخاري عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلي الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت : يا نبي الله ، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: "اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما"، وفي رواية: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما". وقد كانت هذه معجزة أكرم الله بها نبيه صلي الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة . فلما توقفت أعمال الملاحقة والتفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوي، تهيأ رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلي المدينة. ولحرص أبي بكر علي سلامة النبي صلي الله عليه وسلم، واستعداده لأن يفديه بروحه؛ فقد رفض أن يدخل الرسول إلي الغار قبله وقال: والله لا تدخله حتي أدخل قبلك؛ فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقوبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله [: ادخل، فدخل رسول الله [، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله [، فسقطت دموعه علي وجه رسول الله [، فقال: "مالك يا أبا بكر؟". قال: لدغت؛ فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله [ في موضع الألم والداء فذهب ما يجده. وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيقِط الليثي كما أشرنا، وكان هاديا خِرِّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان علي دين كفار قريش، وأمناه علي ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الإثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها إلي اثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت: ذات النطاقين. ثم ارتحل رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَيرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ علي طريق السواحل . في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتي إذا وصل إلي طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالا علي مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا. > > > وفي الرحلة إلي المدينة كانت هناك منقبة أخري لثاني اثنين؛ أبي بكر؛ فقد دأب أبو بكر أن يكون ردفاً للنبي [؛ وكان شيخا يعرف، ونبي الله [ شاب لا يعرف، فيلقي الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق؛ وإنما يعني سبيل الخير. ومن المعجزات المعروفة أن سراقة بن مالك لحق بالرسول وصاحبه ليأخذ الفدية (100 ناقة) من قريش.. فلما لحق بهما عثرت به ناقته عدة مرات.. فلما تأكد له أن رعاية الله تحرسهما نادي بالأمان. وأعطاه الرسول وعداً بأن يلبس سوار كسري، وقد ألبسه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في علاقته تحقيقا لنبوءة الرسول عليه السلام. ومن معجزات الهجرة التي قلما تحظي باهتمام، والدالة علي عظمة الرسول كداعية أنه أثناء الرحلة لقي النبي [ بريدة بن الحصيب الأسلمي، ومعه نحو ثمانين بيتا- وكانوا علي الشرك- فدعاهم الرسول إلي الإسلام؛ فأسلم بريدة وأسلموا، وصلي رسول الله [ العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتي قدم علي رسول الله [ بعد أحد. وعن عبد الله بن بريدة - يصف النبي في أول انطباعاته عنه- أن النبي [ كان يتفاءل ولا يتطير (وهذا درس لمسلمي اليوم)، فعندما لقي بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم قال له النبي [: "ممن أنت" قال: من أسلم، فقال لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: "من بني من؟" قال: من بني سهم. قال: خرج سهمك. > > > فانظر إلي أخذ الرسول صلي الله عليه وسلم في هجرته بأقوي الأسباب مع الاستعانة بالله وانظر كيف كان تخطيطه -وهو النبي الملهم-محكماً!! وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولي من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلي الله عليه وسلم بقباء . وفي هذا اليوم تمّ عمره عليه السلام ثلاثاً وخمسين سنة. وقد سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلي الحَرَّة، فينتظرونه حتي يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلي بيوتهم أَوْفي رجل من يهود علي أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلي صوته : يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلي السلاح . وتلقوا رسول الله صلي الله عليه وسلم بظهر الحرة . قال ابن القيم : وسُمِعت الرجة الشديدة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: {فَإِنَّ الله َ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم: 4). وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها ونزل رسول الله صلي الله عليه وسلم بقباء علي كلثوم بن الهدم أربعة أيام: الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلي فيه، وهو أول مسجد أسس علي التقوي بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلي بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل. ثم سار النبي صلي الله عليه وسلم بعد الجمعة حتي دخل المدينة ـ ومن ذلك اليوم سميت (يثرب) بمدينة الرسول صلي الله عليه وسلم أو المدينة وكأنها لا مدينة غيرها، ولا مدينة مثلها فنزل عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. ثم بدأ يبني المسجد (أول دعائم دولة الإسلام) ويبني بيوته حوله، ويؤاخي بين المهاجرين والأنصار ليصبح المجتمع الإسلامي كله لحمة واحدة لا تفرقه قومية ولا وطنية ولا قبيلة (والمؤاخاة) أزكي صور التلاحم في تاريخ الأديان الإنسانية. ثم ختم (الصحيفة) التي هي دستور المدينة (الوطن) الذي يعيش فيه المسلم وغير المسلم في سياج حقوق متكاملة.. فعلي الرسول المهاجر الأعظم باني أعظم دولة وباعث أعظم حضارة إنسانية أزكي السلام.
* أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
رئيس تحرير مجلة التبيان
أ.د عبد الحليم عويس* | 10-12-2010 21:57
ها هم صحابة رسول الله يهجرون الوطن والدور والأموال، ويضربون في الأرض، تارة إلي الحبشة، وتارة إلي المدينة، ومن المدينة إلي شتي الأمصار؛ من دمشق إلي بغداد، إلي مصر والمغرب، إلي بلاد ما وراء النهر. لقد حملوا في قلوبهم كتاب الله بقوة، وضموه إلي صدورهم، وكأنه كان يتنزل عليهم، وإياهم جاء يخاطب؛ يحرصون عليه حرصهم علي ماء عيونهم، ويرومون إيصال رسالته إلي كل إنسان، في أي مكان في العالم؛ حتي لو خاضوا إليه أشد البحار نأيا واستيحاشا.. ولقد قال عقبة بن نافع رضي الله عنه وهو علي شاطئ المحيط: لو علمت أن وراء هذا البحر ناساً، لخضت البحر إليهم؛ لأبلغهم رسالة الإسلام. وكما يقول صديقنا الكاتب الإسلامي التركي المبدع (أديب الدباغ): لقد ذهب المسلمون إلي العالم؛ لا لنشر الإسلام بين الآخرين فحسب، ولكن للإصلاح العقلي والروحي الذي ينشده هؤلاء الفتية لأنفسهم وللآخرين؛ وهم في الوقت نفسه يبشرون بطريقة جديدة للحياة؛ يتعاون فيها "العقل القرآني"- إذا صح التعبير- مع جدَّة التجربة، وشدة المعاناة التي تنقذ الإنسان من السطحية والتفاهة. وها هم الصحابة قد ضربوا في الأرض؛ لا يعرفون جبالا إلا قطعوها، ولا بلدانا إلا زاروها؛ لكي يخرجوا الناس من ظلمات الجاهلية إلي نور الإسلام، أو كما قال الصحابي (ربعي بن عامر) لرستم قائد الفرس: لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة. والداعية من هؤلاء الفتية- المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- سهل هين لين؛ لا يبني حول نفسه جدارا عقليا أو نفسيا، ولا يحيط نفسه بهالة فخمة لا يستطيع الآخرون أن ينفذوا منها إليه؛ بل هو علي استعداد دائم لقبول الآخرين، والاستماع إلي آرائهم، والإفادة من تجاربهم بكل صدق وحميمية. وعندما هاجر الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة في السابع عشر من صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة؛ لم يهجر قريشا ولا بني هاشم؛ فلقد كان يحب الجميع ويتمني لهم الهداية والخير؛ كما أنه، وهو الوفي- لم ينس لبني هاشم- مسلمهم وكافرهم- مواقفهم معه؛ عندما قادتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل، ودخلوا معه شعب بني هاشم؛ يقاومون معه ومع المسلمين الجوع والفاقة، ولا يمنون عليه بذلك؛ مع أنهم علي غير دينه؛ لكنه الولاء الأصيل الموروث للأرحام. لقد نظر إلي مكة ملتفتا إليها مودعا وقال: إنك أحب بلاد الله إلي الله، وأحب بلاد الله إلي؛ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. (هذا مع كل ما عملوه فيه؛ لكنه وفاؤه العظيم للوطن عليه السلام). > > > إنه من الضروري أن يفقه المهاجرون في عصرنا معاني هجرة الرسول والصحابة؛ فهي كتاب مفتوح؛ عليهم أن يمعنوا القراءة فيه ليدركوا منه أن هجرتهم من بلادهم لأي سبب من الأسباب؛ لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئة بينهم؛ بل يجب أن تبقي الصلة قائمة بينهم وبين الأهل والقوم؛ لا سيما ووسائل التواصل الآن في أقوي مستوي عرفته البشرية (عن طريق الهاتف والأنترنت، والبريد السريع الدولي، وغيرها) وبالتالي يكونون قد وصلوا الأرحام، وجمعوا بين الثلاثية المتكاملة؛ التي تمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تنفصم؛ وإلا فقدت الأمة مكانتها الخيرية؛ التي رفعها الله إليها عندما قال: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيراً لَهُم مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُم الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110). وعندما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً} (البقرة: 143). إنها ثلاثية: الإيمان، والهجرة، والاجتهاد. > إن الهجرة الإسلامية اليوم إلي أي بلد في العالم (إذا صح أنها هجرة ذات نية إسلامية وهدف إسلامي)؛ ولو كانت لطلب الرزق؛ (فإنما الأعمال بمقاصدها الشرعية وبنياتها) يجب أن تكون هجرة تسعي إلي التواصل والتعارف، والتحاور والحب؛ مع أهل الماضي والتراث من الوطن والرحم؛ بحيث يشعر كل الناس أن الأفراد المسلمين والمجموعات الإسلامية التي تعيش بينهم؛ إنما تمثل روحا جديدة لها أصالتها وعراقتها؛ تبني ولا تهدم، وتزرع الخير وتقاوم الشر. ولا تعرف التفرقة في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين، والوطني والوافد، والأبيض والأسود. > وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأي الناس في المسلم المهاجر إليهم- من خلال أقواله، وأفعاله، وإسهاماته الخدمية، وآفاقه المعرفية، وعبوديته لله- شخصية متميزة جادة، تفعل ما تقول، وتعيش معهم حياتهم اليومية، وآمالهم وآلامهم؛ وفية كل الوفاء لماضيها، حريصة علي قيمها وجذورها. > ومع الالتزام بهذا السلوك الرفيع فإن علي المسلم أن لا يتوقع أن يكون الطريق مفروشا بالورود؛ فإن طبيعة الدعاة إلي الله أن يجدوا مقاومة من أهل الباطل.. وهنا يظهر الداعية الحقيقي، ويرسب من يرسب وينجح من ينجح!! > > > لقد مكرت قريش بالرسول وتجمعت لقتله، ومكر الله لرسوله؛ فقد نزل جبريل عليه السلام إلي النبي [ بوحي من ربه تبارك وتعالي؛ فأخبره الله بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة المواجهة لمؤامرة قريش فقال له جبريل: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه. وقد أحاطت قريش- من خلال الممثلين الفتيان الأشداء للقبائل من الشباب- ببيت رسول الله؛ لكن خطتهم فشلت فشلا ذريعاً؛ مع غاية المراقبة والتيقظ والتنبه. لقد خرج رسول الله [ عليهم من البيت واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من التراب فجعل يذروها علي رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه... وهو يتلو قوله تعالي: {وَجَعَلْنَا مِن بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِن خَلْفِهِم سَدّاً فَأَغْشَينَاهُم فَهُم لا يبْصِرُونَ} (يس: 9)، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع الرسول صلي الله عليه وسلم علي رأسه ترابا، ومضي إلي بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا؛ حتي لحق- الاثنان- بغار ثور في اتجاه اليمن، وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر؛ وهم لا يدرون أن مكرهم كان مكر سوء، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله!! وكانوا كلما تطلعوا من كوة الباب رأوا إنساناً غير موضح المعالم ينام علي سرير الرسول فقالوا: والله؛ إن هذا لمحمد نائم؛ عليه برده؛ فلم يبرحوا كذلك حتي أصبحوا، وقام علي عن الفراش متثائبا كأنهم لا يحيطون به، ولا يتعرض لخطر الموت؛ لأنه كان يثق ثقة كاملة في قول الرسول [ له: "إنهم لن يصيبوك بأذي". ولما سألوه عن رسول الله [ قال: لا علم لي به. وقد غادر رسول الله [ بيته في ليلة 27 من شهر صفر، سنة 14 من النبوة؛ الموافق 12 / 13 سبتمبر 622م) وأتي دار رفيقه؛ الذي كان أقرب المؤمنين إليه، والذي بذل في سبيل الله كل ماله- أبي بكر الصديق رضي الله عنه- ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة علي عجل، قبل أن يطلع الفجر. > > > وثمة ومضات وعبر في الهجرة نكررها في كل عام لكننا نمر عليها مرور الغافلين.. إنه عليه السلام قد استأجر وثنياً هو (عبد الله بن أريقط) ليكون دليل الرحلة؛ ليضع حجر الأساس في علاقة دولة المدينة الواعدة الجديدة بالعالم..فهي دولة غير معقدة؛ لا تحمل أحقاداً، ولا تعرف عنصرية.. لا دينية ولا جنسية؛ وهي تمدّ يدها إلي العالم منذ البداية؛ في حوار حضاري تتكامل فيه الخبرات، ويقع التعارف الصحيح، القائم علي التكامل لا الصراع. وقد أخد الدليل (الوثني؛ ابن أريقط) ليثرب طريقا غير الطريق المألوف، فاتجه إلي يثرب عن طريق اليمن؛ لا الشام، مما يؤكد فراسة النبي في أن أهل الكفاءة يجب أن يقدموا علي أهل الثقة والولاء. مع استخدام أهل الثقة في مواضع محددة لا يشركهم فيها أحد... وبهما معا تسير الحياة صعودا إلي الأمام. لقد مشي الرسول في هذا الطريق نحو خمسة أميال حتي بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور؛ وهو جبل شامخ، وعر الطريق؛ صعب المرتقي، مليء بالصخور والأحجار الكثيرة، فحفيت قدما رسول الله [، وقيل: بل كان يمشي في الطريق علي أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد أعانه أبو بكر حتي بلغ به إلي الجبل، وطفق يشتد به حتي انتهي به إلي غار في قمة الجبل عرف في التاريخ (بغار ثور). فمكثوا ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ معهم، فلا يسمع أمرًا يكيدون به إلا وعاه حتي يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. وكان يرعي عليهما عامر بن فُهَيرَة مولي أبي بكر فيعطهما مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلي مكة ليعَفي عليه. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتي بالطعام والشراب... أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلي الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلي الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما وكان هذا منتهي إيذائهم لعلي.... ولما لم يحصلوا من علي علي جدوي جاءوا إلي بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدري والله أين أبي ؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها. وقد وضعت قريش جميع الطرق النافذة من مكة تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدلاً عن كل واحد منهما لمن يعيدهما إلي قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان. وقد وصل بعض المطاردين إلي باب الغار، ولكن الله أغشي أبصارهم، روي البخاري عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلي الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت : يا نبي الله ، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: "اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما"، وفي رواية: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما". وقد كانت هذه معجزة أكرم الله بها نبيه صلي الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة . فلما توقفت أعمال الملاحقة والتفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوي، تهيأ رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلي المدينة. ولحرص أبي بكر علي سلامة النبي صلي الله عليه وسلم، واستعداده لأن يفديه بروحه؛ فقد رفض أن يدخل الرسول إلي الغار قبله وقال: والله لا تدخله حتي أدخل قبلك؛ فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقوبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله [: ادخل، فدخل رسول الله [، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله [، فسقطت دموعه علي وجه رسول الله [، فقال: "مالك يا أبا بكر؟". قال: لدغت؛ فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله [ في موضع الألم والداء فذهب ما يجده. وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيقِط الليثي كما أشرنا، وكان هاديا خِرِّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان علي دين كفار قريش، وأمناه علي ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الإثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها إلي اثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت: ذات النطاقين. ثم ارتحل رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَيرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ علي طريق السواحل . في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتي إذا وصل إلي طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالا علي مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا. > > > وفي الرحلة إلي المدينة كانت هناك منقبة أخري لثاني اثنين؛ أبي بكر؛ فقد دأب أبو بكر أن يكون ردفاً للنبي [؛ وكان شيخا يعرف، ونبي الله [ شاب لا يعرف، فيلقي الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق؛ وإنما يعني سبيل الخير. ومن المعجزات المعروفة أن سراقة بن مالك لحق بالرسول وصاحبه ليأخذ الفدية (100 ناقة) من قريش.. فلما لحق بهما عثرت به ناقته عدة مرات.. فلما تأكد له أن رعاية الله تحرسهما نادي بالأمان. وأعطاه الرسول وعداً بأن يلبس سوار كسري، وقد ألبسه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في علاقته تحقيقا لنبوءة الرسول عليه السلام. ومن معجزات الهجرة التي قلما تحظي باهتمام، والدالة علي عظمة الرسول كداعية أنه أثناء الرحلة لقي النبي [ بريدة بن الحصيب الأسلمي، ومعه نحو ثمانين بيتا- وكانوا علي الشرك- فدعاهم الرسول إلي الإسلام؛ فأسلم بريدة وأسلموا، وصلي رسول الله [ العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتي قدم علي رسول الله [ بعد أحد. وعن عبد الله بن بريدة - يصف النبي في أول انطباعاته عنه- أن النبي [ كان يتفاءل ولا يتطير (وهذا درس لمسلمي اليوم)، فعندما لقي بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم قال له النبي [: "ممن أنت" قال: من أسلم، فقال لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: "من بني من؟" قال: من بني سهم. قال: خرج سهمك. > > > فانظر إلي أخذ الرسول صلي الله عليه وسلم في هجرته بأقوي الأسباب مع الاستعانة بالله وانظر كيف كان تخطيطه -وهو النبي الملهم-محكماً!! وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولي من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلي الله عليه وسلم بقباء . وفي هذا اليوم تمّ عمره عليه السلام ثلاثاً وخمسين سنة. وقد سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلي الحَرَّة، فينتظرونه حتي يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلي بيوتهم أَوْفي رجل من يهود علي أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلي صوته : يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلي السلاح . وتلقوا رسول الله صلي الله عليه وسلم بظهر الحرة . قال ابن القيم : وسُمِعت الرجة الشديدة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: {فَإِنَّ الله َ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم: 4). وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها ونزل رسول الله صلي الله عليه وسلم بقباء علي كلثوم بن الهدم أربعة أيام: الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلي فيه، وهو أول مسجد أسس علي التقوي بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلي بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل. ثم سار النبي صلي الله عليه وسلم بعد الجمعة حتي دخل المدينة ـ ومن ذلك اليوم سميت (يثرب) بمدينة الرسول صلي الله عليه وسلم أو المدينة وكأنها لا مدينة غيرها، ولا مدينة مثلها فنزل عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. ثم بدأ يبني المسجد (أول دعائم دولة الإسلام) ويبني بيوته حوله، ويؤاخي بين المهاجرين والأنصار ليصبح المجتمع الإسلامي كله لحمة واحدة لا تفرقه قومية ولا وطنية ولا قبيلة (والمؤاخاة) أزكي صور التلاحم في تاريخ الأديان الإنسانية. ثم ختم (الصحيفة) التي هي دستور المدينة (الوطن) الذي يعيش فيه المسلم وغير المسلم في سياج حقوق متكاملة.. فعلي الرسول المهاجر الأعظم باني أعظم دولة وباعث أعظم حضارة إنسانية أزكي السلام.
* أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
رئيس تحرير مجلة التبيان